قادت أحداث «طوفان الأقصى»، وما تلاها من عدوان إسرائيلي وحشي على قطاع غزة، إلى تغيُّر ملموس في الموقف الأفريقي من الأزمة الراهنة، ومن مجمل القضية الفلسطينية، لمصلحة التضامن مع الأخيرة، واستعادة خطاب مناهضة الاستعمار الصهيوني في فلسطين، باعتباره صنواً للاستعمار الاستيطاني الأوروبي، ولا سيما في جنوب القارة وشرقها. وتوازياً، أعادت مجزرة مستشفى «المعمداني» (17 الجاري) كشْف الوجه الحقيقي لإسرائيل، وفق قراءة العديد من المثقّفين الأفارقة، وذلك على رغم التضييق الإعلامي في عدد من الدول الأفريقية، والذي لم يمنع ظهور ردود فعل رسمية مندّدة بالمذبحة. وفي هذا الإطار، اعتبر رئيس مفوضية «الاتحاد الأفريقي»، موسى فقي، أن إسرائيل ارتكبت «جريمة حرب» في غزة، داعياً المجتمع الدولي إلى التحرّك حيال تلك الجرائم.
فلسطين مجدّداً؟
تحرص الميديا الغربية ورديفتها في دول «العالم الثالث»، على تصوير الموقف الأفريقي الراهن من الأزمة في فلسطين على أنه «منقسم»، في ما يحيل على تصوُّر وجود معسكرَين متكافئَين في التضامن مع فلسطين، أو الاصطفاف خلف إسرائيل. لكن المتابعة الدقيقة للمواقف الأفريقية (ولا سيما في الميديا المحلّية)، تكشف عن تضامن متزايد وعميق للغاية من قِبَل نُخب أفريقية (راديكالية أو معتدلة) مع فلسطين، وقضيّة شعبها، التي عادت لتتصدّر واجهة المشهد العالمي. وليس أدلّ على ذلك من الاستخدام الواضح، والذي لا لبس فيه، لكلمة «فلسطين» بمعناها التاريخي الواضح، مقروناً بالتأكيد أن الوجود الإسرائيلي يمثّل في أساسه احتلالاً. ولا يقتصر هذا التحوّل على حواضن الدعم الشعبي التقليدية للقضية الفلسطينية في جنوب أفريقيا، بل يلاحَظ، من خلال معاينة وسائل الإعلام المحلّية في كينيا ونيجيريا وعدد من دول غرب أفريقيا وإقليم الساحل، أن هناك فهماً حقيقيّاً للقضيّة الفلسطينية، رغم عقود من التزييف الإعلامي. وترتفع، في الموازاة، نبرة تُشدّد على ضرورة التمييز بين الصهاينة (كأصحاب مشروع استعماري واستيطاني) واليهود، وربْط تجربة الفلسطينيين ومعاناتهم بتجارب الاستعمار الأوروبي في أفريقيا. وهكذا، تتكشّف معالم تقاطعات دولية واضحة مع الحشد العسكري والسياسي الغربي لصالح إسرائيل (التي انتهزت بدورها الأزمة وطلبت من الإدارة الأميركية مساعدات عسكرية عاجلة بقيمة 10 مليارات دولار، كما بادرت العديد من المؤسّسات الصهيونية إلى إطلاق حملات إغاثة للمواطنين الإسرائيليين)، في مقابل حشدٍ جنوب عالمي متصاعد تضامناً مع فلسطين، وفق ما عكسه تصويت مجلس الأمن الأخير على مشروع القرار الروسي لوقف إطلاق النار. ويعزّز المسار المتقدّم نموّ وعي نخبويّ وشعبي كبير في ربوع القارة الأفريقية بعدالة القضيّة الفلسطينية، فضلاً عن تفهُّم جذورها.

أصوات التضامن تعلو رويداً رويداً
كان دالّاً للغاية، ربْط أحد كبار مسؤولي العدل السابقين في كينيا، ويلي موتونجا، بين موقف الرئيس وليام روتو إزاء فلسطين، والذي وُصِف بـ«المتخاذل والمخالف للدستور الكيني»، والأحداث التي تشهدها دولة هايتي في البحر الكاريبي. فقد عنون موتونجا جزءاً من مقالة مهمّة («ذا ستار»، 9 الجاري) بالتالي: «هايتي في الأمس، واليوم فلسطين»، مشدّداً في سياقها على وجوب أن لا تؤدّي سياسات روتو الخارجية إلى انتهاك دستور البلاد، عبر «اتّخاذ قرارات تؤثّر على مصلحتنا الوطنية من دون مشاركة» (شعبية حقيقية)، لافتاً إلى أن الدستور الكيني التقدّمي يجعل مواطني البلاد «أوصياء على المصلحة الوطنية»، مطالباً مواطنيه بالاحتشاد لحماية تلك المصالح «من طبقة كومبرادورية حاكمة تلعب دور العمالة للإمبريالية» عبر قرار روتو دعْم هجمات إسرائيل على الفلسطينيين. وعقد موتونجا مقارنةً رصينة بين وضع فلسطين (مع ملاحظة بالغة الإيجابية، وهي عودة استخدام كلمة فلسطين من دون تحفّظات وبدلالاتها التاريخية الحقيقية) راهناً، وبين وضع كينيا في مرحلتَي الاستعمار والاستعمار الجديد، وحركة الماو ماو (أو «جيش الأرض والحرية» الذي خاض نضالاً شرساً ضدّ الاستعمار البريطاني الاستيطاني وذيوله). وطرح تساؤلات واضحة وصريحة للغاية: «أليست تلك حرباً عادلة للمقاومة؟ أليست تلك حرباً من أجل الحرية؟ إن فلسطين محتلّة ومستعمَرة وخاضعة للهيمنة ومقموعة من قِبَل النظام الصهيوني في إسرائيل»، ليخلص، في نهاية مقالته الطويلة، إلى القول إن «هناك ضرورة لتضامن الكينيين مع الفلسطينيين».
عادت القضية الفلسطينية بكامل حيويتها إلى الذاكرة الأفريقية، على خلفية الأزمة الحالية


أمّا الكاتب الكيني المعروف، ماتشاريا جيثو، فتبنّى موقفاً «معتدلاً» («نايشن» 17 الجاري) بإدانته هجمات «حماس»، في الوقت نفسه الذي دعا فيه إلى عدم «دعم الإرهاب الإسرائيلي»، علماً أن استخدام هذا المصطلح الأخير يُعدّ تطوّراً مهمّاً في سياق توصيف سلوك دولة الاحتلال في الميديا الأفريقية. وفي الموازاة، أشار رئيس تحرير «أفريكا ريبورت»، باتريك سميث (16 تشرين الأول)، في افتتاحية كتبها في الموقع المذكور، إلى ملاحظة أخرى مهمّة، وهي أن «إسرائيل لم تحظَ بتضامن أفريقي معقول، إذ اقتصر داعموها في الحرب ضدّ حماس (وقبل مجزرة المعمداني) على أربع دول فقط، هي: جمهورية الكونغو الديمقراطية، غانا، كينيا وزامبيا، فيما تقود جنوب أفريقيا والجزائر الدعوة إلى وقف العنف، ثمّ إعادة إطلاق المفاوضات لقيام دولة فلسطينية»، ليفنّد سذاجة طرْح الميديا الغربية القائل إن أفريقيا «منقسمة» إزاء الأزمة.

نحو جلب إسرائيل إلى «الجنائية الدولية»؟
عنونت صحيفة «Daily Trust» النيجيرية البارزة صفحتها الأولى بعنوان حاسم وقاطع (ومخالف لرواية نتنياهو، وضيفه الرئيس الأميركي، جو بايدن)، مفاده قتل القوات الإسرائيلية 3308 فلسطينياً، والذي اعتبرته مؤشّراً إلى ارتفاع التكلفة البشرية لـ«الصراع الجاري بين إسرائيل وفلسطين» (في تجاهل واضح لسردية الحرب مع «حماس»). وسلّطت الصحيفة الضوء على جهود جناح العلماء في «مؤتمر المنظّمات الإسلامية» في لاغوس (17 الجاري)، لإبراز تناقضات المجتمع الدولي برفضه «إدانة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية»، ودعوته، مجلس الشيوخ النيجيري، إلى «تمرير مشروع قانون لقطع علاقاتنا الديبلوماسية مع إسرائيل على خلفية ارتكابها جرائم حرب، وإغفالها جميع قرارات الأمم المتحدة».
ويبدو أن أفكار تقديم القادة الإسرائيليين إلى المحاكمة الجنائية الدولية، تَجد قبولاً أفريقيّاً كبيراً، إذ فصّلت صحيفة «Mail & Guardian» الجنوب أفريقية (17 الجاري) الجهود التي يقودها «مركز الادّعاء الجنوب أفريقي» (SALC) في هذا المسار، لمطالبة 33 دولة أفريقية من الدول الأعضاء في «المحكمة الجنائية الدولية»، بالضغط من أجل قيام الأخيرة بتحقيقات كاملة في انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة وجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في غزة. واللافت أن هذه الدعوة لاقت تأييد عشرات المنظّمات في القارّة، بما فيها الأسقف الإنجليكاني لعموم أفريقيا الجنوبية، ثابو ماكجوبا، و«منظّمة اليهود الجنوب أفارقة من أجل فلسطين حرّة» (SAJFP)، فيما أكد بيان لـ«مركز الادّعاء» إمكانية المضيّ قُدماً في جلب إسرائيل إلى المحاكمة، بالاستناد إلى «السابقة الأوكرانية».

خلاصة
عادت القضية الفلسطينية بكامل حيويّتها إلى الذاكرة الأفريقية، على خلفية الأزمة الحالية. وممّا يلاحَظ من متابعة الرؤى الأفريقية، أن حاجز سوء الفهم والتنميط «الغربي» لتلك القضيّة قد انكسر من جديد وبشكل غير مسبوق، منذ حربَي حزيران 1967، وتشرين الأول 1973، لمصلحة قراءات دقيقة لطبيعة الصراع. كما يلاحَظ توفّر مساحات كبيرة لاستعراض تلك الرؤى في مختلف وسائل الإعلام الوطنية، وهو تطوّر مهمّ للغاية يمثّل رصيداً حقيقيّاً لمستقبل القضيّة، وأداة غير واعية وفّرها الظرف التاريخي الراهن لإعادة المسألة الفلسطينية إلى قلب الوعي الأفريقي، كونها جزءاً لا يتجزّأ من النضالات الوطنية طوال العقود الماضية ضدّ الاستعمار والاستعمار الجديد والإمبريالية ذاتها التي لا تزال تتجلّى في أروقة النظام العالمي، وتحاول قمع تحوّلات الجنوب العالمي، والتي لا يبدو أنها ستتوقّف عند هذه اللحظة.