يبدو أن الجولة الحالية من التصعيد الإسرائيلي في غزة، ستكون لها آثار عميقة في اتّجاهات الرأي العام الغربي، حيال حقيقة الصراع الدائر في الأراضي المحتلّة. ومنذ إعلان جيش الاحتلال إطلاق عمليّة «السيوف الحديدية»، وإدراجها في إطار الردّ على عمليّة «طوفان الأقصى»، جابت موجة تضامن عالمي واسعة مع الشعب الفلسطيني، أصقاع الأرض طولاً وعرضاً، ولا سيما في البلدان الغربية، ومن بينها الولايات المتحدة التي شهدت، منفردةً، منذ السابع من تشرين الأول الجاري، نحو 200 تظاهرة مؤيّدة للفلسطينيين، ومندّدة بما يتعرّض له أبناء قطاع غزة المحاصَر، والمصنّف من ضمن البقع الأكثر كثافة سكانية في العالم.وفي معركة تتداخل فيها الاعتبارات الدينية والسياسية والأيديولوجية، انقسمت فيها أحزاب وشعوب على نفسها، بين مَن يندّد بسياسات ما يصفها ناشطون غربيون بـ»دولة الفصل العنصري» لاعتبارات تتعلّق بالقيم الإنسانية وأحكام «القانون الدولي»، ومَن يصرّ على حقّ إسرائيل في «الدفاع عن نفسها» لأسباب يطغى عليها الجانب العقدي والدوغمائي، كانت باحة «ناشونال مول» قبالة مبنى «الكونغرس» مسرحاً لفعّالية احتجاجية من نوع خاص، قد تثير التباساً لدى البعض، فيما تبدو منطقية بالنسبة إلى البعض الآخر، ويمكن اختصارها بعنوان: «يهود أميركا يتظاهرون ضدّ إسرائيل». الفعّالية التي شارك فيها عشرات المواطنين الأميركيين، ومن بينهم ناشطون يهود في منظّمات مناهضة لدولة الاحتلال - لعلّ أبرزها «منظّمة الصوت اليهودي للسلام» - ارتدوا سترات كُتب عليها: «(الحرب) لا تمثّلنا»، و»اليهود ينادون بوقف إطلاق النار (في غزة) فوراً»، استهدفت مطالبة أعضاء الكونغرس بالدفع إلى إقرار وقف فوري لإطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومنْع تفاقم الأوضاع الإنسانية في القطاع. ومن بين المشاركين في الفعّالية، النائبتان عن «الحزب الديمقراطي»، رشيدة طليب وكوري بوش، إذ ندّدت الأولى، أمام المحتشدين، بالدعم غير المشروط الذي توفّره إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لإسرائيل، متوجهةً إليه بالقول: «ليس كلّ الشعب الأميركي مؤيّداً لك في هذه السياسة»، ومؤكدةً أن «الأميركيين يريدون وقف إطلاق النار، ووقف الحرب» في غزة، فيما ردّت الثانية على منتقديها ممَّن وصفوا تصريحاتها المناهضة لإسرائيل بـ»المشينة»، قائلةً: «ليس ثمّة ما هو بغيض أو مشين في الدعوة إلى إنقاذ الأرواح». وانتهت التظاهرة التي انفضّت على يد الشرطة، بعدما لوّح خلالها المشاركون بالأعلام الفلسطينية، حاملين شعارات ذات مضامين إنسانية، ولافتات كُتب عليها: «دعوا غزة لتعيش»، باعتقال نحو 300 متظاهر بدعوى مقاومة السلطات.
وفي العموم، تعكس التظاهرة حقيقة تنامي ظاهرة تراجع التأييد لكيان الاحتلال في صفوف الأميركيين، ولا سيما فئة الشباب من اليهود والمسيحيين، خلافاً للأجيال السابقة التي تحمل صورة «تقليدية» محافِظة عن إسرائيل بوصفها «واحة سلام ديموقراطية في بيئة إقليمية قمعية وعدائية». ويرى مراقبون أنّ الأعوام الأخيرة شهدت انتكاسات لإسرائيل في معركة الرأي العام داخل الولايات المتحدة، ومن ضمن الشواهد على ذلك، رفْض العديد من الاتحادات الطالبيّة في أكثر من جامعة، وفي أكثر من مناسبة، استضافة مسؤولين إسرائيليين. واليوم، انتقلت المعركة حول «سردية» الحرب في غزة بين وجهتَي النظر الفلسطينية والإسرائيلية، أخيراً، إلى أروقة جامعة «هارفرد» العريقة، حيث وقّعت 33 منظّمة طالبيّة على بيان حمّلت فيه دولة الاحتلال «المسؤولية الكاملة عن كلّ أعمال العنف الجارية» في فلسطين، وهو ما انعكس انقساماً وسط هيئة التدريس والطلاب بين مؤيّد ومعارض، في ظلّ تهديدات تلقّاها الناشطون الموقّعون على البيان، بالتشهير بهم، ومنْعهم من الحصول على وظائف مستقبلاً بتهمة «معاداتهم للسامية». وعلى وقْع انطلاق نشاطات تضامنية، في عدد من الجامعات الأميركية، كجامعتَي فرجينيا وأريزونا، نظّمتها جمعية «طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، تنديداً بالجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، وتحت شعار «يوم المقاومة»، بدا لافتاً المضمون التحذيري الذي أشاعه الأكاديمي القانوني، ريتشارد غولدفاسر، عبر منصة «إكس»، عندما قال إن «إسرائيل على وشك أن تخسر جيلاً من الأميركيين»، منبّهاً إلى أن «هذا يعني خسارة أميركا»، في إشارة إلى استنكاره سياسات حكومة بنيامين نتنياهو الحالية.
لا تتجاوز نسبة الداعمين للموقف الإسرائيلي في الولايات المتحدة الـ39%


وعلى رغم استمرار وجود نسب تأييد مرتفعة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بين الأميركيين، غالبيتها تسود أوساط المسيحيين الإنجيليين، من منطلقات عقائدية ذات طابع عنصري، تتماشى مع المعتقدات الصهيونية، وتميل إلى إسقاط نظرتها «الدينية» على الأحداث السياسية في الشرق الأوسط، تشير تقارير غربية إلى «تحوّلات جيلية» داخل ذلك المجتمع، موضحةً أنّ الفارق بين الأمس واليوم هو ما «نشهده (اليوم) من ارتفاع مطّرد في نسبة التأييد لحقوق الشعب الفلسطيني»، وفق مرجعيات «الشرعية الدولية»، وذلك على خلفية سياسات التغوّل الاستيطاني التي تنتهجها تل أبيب في أراضي الضفة الغربية، والنهج العدواني غير المبرّر تجاه الفلسطينيين، فضلاً عن بروز توجّهات ليبرالية لدى الجيل الشاب من اليهود، والإنجيليين على السواء، ينادي بتسوية «عادلة» للقضية الفلسطينية، قائمة على «حلّ الدولتين». ففي استطلاع للرأي، أُجري العام الماضي، أعرب ما نسبته 56% فقط من الشباب الأميركيين، ممّن تُراوِح أعمارهم بين 18 و29 عاماً، عن موقف إيجابي من إسرائيل، فيما بلغت نسبة مَن أعربوا عن موقف أكثر إيجابية من الفلسطينيين، حوالى 61%. ومع بدء العدوان على غزة، نشرت شبكة «سي إن بي سي» الأميركية، نتائج استطلاع جديد للرأي، أَظهر أن نسبة الداعمين للموقف الإسرائيلي في الولايات المتحدة، لا تتجاوز الـ39%، وذلك في مقابل بروز رأي يدعو إلى موقف أكثر اتّزاناً من جانب واشنطن، حيال كلّ من الفلسطينيين والإسرائيليين، حاز نسبةَ تأييد قاربت الـ36%.