يلعب الزلزال العسكري والسياسي الكبير الذي واجهه كيان الاحتلال الإسرائيلي، عقب عملية «طوفان الأقصى»، وما ترتّب عليه من تداعيات على مستوى «الوعي الجمعي» لقادة الكيان وجمهوره، دوراً في الارتباك الحاصل على مستوى أعلى هرم السلطة في إسرائيل، وتحديداً في ما يخصّ سبل التعامل مع فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة. وعلى وقْع التسريبات المتواصلة في شأن خلافات في تقدير الموقف بين القيادة السياسية المتمثّلة برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وتلك العسكرية الممثَّلة ببعض جنرالات الجيش، يؤازرهم وزير الأمن، يوآف غالانت، تبدو خشية معسكر نتنياهو من أن يسفر ردّ إسرائيل على ما وُصف بـ»أكبر إخفاق» عسكري واستخباري لها منذ قرابة نصف قرن، عن إخفاق لا يقلّ وطأةً، وربّما أشدّ، في حال اتّخذ قراره النهائي بإقحام جيشه في وحول غزة.وإزاء ما يشاع عن نيّة حكومة نتنياهو شنّ عملية برية في القطاع، يحذّر خبراء عسكريون من أن الجيش الإسرائيلي على وشك أن يخوض إحدى أشرس مواجهات «حرب شوارع» منذ الحرب العالمية الثانية. ويستحضر هؤلاء، في معرض تحذيرهم، صعوبات ميدانية جمّة لِما اصطلح على تسميته بـ»حرب المدن»، سواء لجهة ما يترتّب عليها من استنزاف للعنصر البشري في صفوف المتحاربين، والمدنيين على السواء ، أو ما يتّصل بالظروف السياسية المصاحبة للحرب، والبيئة المدينية وما تفرضه من ظروف قتالية بالغة الصعوبة، بخاصة لدى الطرف المهاجِم، مستذكرين ما واجهته القوات الأميركية في العراق في معركتَين مفصليتَين، هما معركة الفلوجة مع مقاومين عراقيين عام 2004، والتي تُعدّ من أصعب المعارك التي خاضها الأميركيون منذ حرب فيتنام؛ ومعركة الموصل عام 2016، والتي شارك فيها الجيش الأميركي، عبر سلاح الجو، لدعم القوات العراقية المتقدّمة على الأرض، ضدّ تنظيم «داعش».

بين حرب غزة ومعركتَي الموصل والفلوجة
باستحضار ظروف معركة الموصل، وتحديداً ما يرتبط منها بالعامل البشري، قد تكفي الإشارة إلى أن حصيلة الضحايا المدنيين جراءها قاربت العشرة آلاف، فضلاً عن خسائر في صفوف الجيش العراقي تخطّت حاجز الثمانية آلاف بين قتيل وجريح. وفي السياق نفسه، تشير تقارير غربية إلى أنه، حتى في الحالات التي تقوم فيها القوات المهاجِمة بإصدار توجيهات بإجلاء المدنيين من مسرح العمليات، فإن الوقت لا يكون كافياً، خصوصاً عندما يكون دافع إطلاق العملية العسكرية انتقاميّاً، كما جرى في الفلوجة عام 2004، وفي غزة حالياً. ففي معركة الفلوجة، والتي تذرّعت خلالها واشنطن بمقتل أربعة من المتعاقدين العسكريين لديها، أصدرت القوات الأميركية أوامرها بإجلاء المدنيين، خلال مدة لا تتجاوز الـ72 ساعة، وهي مهلة لم تكن كافية لنزوح عشرات آلاف المدنيين قبل بدء المعارك، التي تسبّبت بحصيلة «ثقيلة» من القتلى والجرحى لدى الجانب الأميركي، ما اضطرّه لاحقاً لإيقاف العمليات العسكرية بدعوى السماح بإجلاء المزيد من المدنيين. الأمر نفسه تقريباً تكرّر في غزة أخيراً، إذ استهجن كثيرون دعوة القوات الإسرائيلية سكان القطاع، مطلع الحرب، إلى إخلاء مناطقهم في غضون 24 ساعة، وهو ما استنكره مسؤولون دوليون، على رأسهم مسؤول السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل.
لا يمكن حصْر التعقيدات المتّصلة بـ«المسرح الغزاوي»، بالجانب العسكري فقط


ومع الأخذ في الاعتبار تفاوت الخبرة العسكرية بين الجيش العراقي، وقوات الاحتلال، في هذا النوع من المواجهات، وخصوصاً أن الأخيرة تمرّست في محاولة ابتداع خطط عسكرية لدرء مخاطر أنفاق المقاومة، فقد استغرق الأمر من قوة بلغ قوامها قرابة 100 ألف جندي، في وجه بضعة آلاف من مسلّحي التنظيم المتطرّف، تسعة أشهر لحسم المعركة، التي كان من المقرّر أن تستغرق ثلاثة أشهر فقط، وذلك بالنظر إلى تعقيدات بيئة القتال في المدينة التي تُعدّ غير مألوفة بالنسبة إلى جيش نظامي، علماً أن حجم الخسائر الكبيرة في صفوف الجنود العراقيين، خلال الأشهر الأولى منها، شكّل دافعاً للاستعانة بالطيران الأميركي، ما أفضى إلى «فاتورة» تدميرية باهظة بلغت 13 ألف مبنى، وفق إحصاءات أممية. وفي حالة غزة، فإن التقديرات تشير إلى أن القوات الإسرائيلية ستواجه في القطاع، المكتظّ سكّانياً ضمن مساحة تُقدّر بنحو 363 كيلومتراً مربعاً (مساحة مدينة غزة وحدَها نحو 52 كيلومتراً مربعاً ويقطنها 700 ألف شخص)، في حال قرّرت اجتياحه برّياً، ما لا يقلّ عن 40 ألف مقاتل من «حماس»، إضافةً إلى الآلاف من فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، كـ»الجهاد الإسلامي»، مع فارق عنصر المعرفة بالأرض، والانتماء الوطني للمقاومين، باعتبارهم أبناء القطاع، خلافاً لعناصر «داعش» في حالة الموصل.

العملية البرية في غزة: فخّ عسكري و»ضوابط» سياسية
من بين «كوابح» العملية البرية الإسرائيلية المحتملة في غزة، ما يعود إلى خصائص البيئة المدينية الحديثة للقتال، والتي تتميّز بوجود عدد أكبر من المباني الشاهقة والأبراج، مقارنة بمدينة الموصل، حيث تنتشر في كثير من الحالات، الأنفاق تحت الأرض سواء لأغراض لوجستية أو تكتيكية، وهو الحال بالنسبة إلى المقاومة الفلسطينية في غزة، والتي تمتلك شبكة أنفاق يُقدّر طولها بـ500 كيلومتر. كما أن أبرز تلك الخصائص، ما يتعلّق بانتشار الكمائن العسكرية والمفخّخات والاستخدام المكثّف لأسلوب القنص، وإطلاق القذائف الصاروخية ضدّ تجمّعات الأفراد والدروع في صفوف القوى المهاجِمة، من داخل الأبنية وكذلك من على الأسطح. وهو أسلوب قتال تعتمده المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن استخدام سلاح المُسيّرات في الإغارة والاستطلاع.
ولإيجاز تلك الخصائص التكتيكية المعقّدة لحرب المدن، يوضح الكولونيل توماس آرنولد، وهو أحد المخطّطين الإستراتيجيين لدى الجيش الأميركي، أن «المدن هي بمثابة مسرح حرب شيطاني، على نحو يصبح القيام بأيّ شيء، أيّاً يكن، يبدو في غاية الصعوبة». ويلمح آرنولد، وهو أكاديمي متخصّص في الشؤون العسكرية، إلى فقدان الجيش الإسرائيلي مزايا تفوّقه العسكري النوعي، مقابل الفصائل الفلسطينية، معتبراً أنّه «يمكن (حروب) المدن أن تقلّل من المزايا التكنولوجية لديك». ويتابع قائلاً: «بينما تنتظر إسرائيل الوقت المناسب، لناحية تهيئة الظروف (العملياتية) المناسبة، على وقع مواصلة تسوية المباني داخل القطاع بالأرض، وإعداد قواتها للحرب هناك، فمن المرجّح أن يكون الجانب الآخر بدوره في صدد استكمال استعداداته أيضاً». وفي ضوء ما تقدَّم، يمكن الحصول على تفسيرات سريعة لاستعجال الولايات المتحدة في إرسال كبار ضبّاطها، وفي طليعتهم النائب السابق لقائد قوة مهام العمليات الخاصة الأميركية في الحملة ضدّ «داعش» في سوريا، جايمس غلين، بغية تقديم المشورة لـ»الحليف القديم»، وذلك تلافياً لوقوع «السيناريو البشع»، في إشارة إلى خيار الغزو البري.
وعلى ما يبدو، لا يمكن حصْر التعقيدات المتّصلة بـ»المسرح الغزاوي»، إذا جاز التعبير، بالجانب العسكري فقط، ذلك أن لِقرار التصعيد ما بعده على المستوى السياسي، وبصورة أكثر تحديداً الموقف الدولي وأيضاً الداخلي. ولتوضيح الفكرة أكثر، يذهب «مركز دراسات الحرب الحديثة» إلى تقدير مفاده أنّ إسرائيل «خاضت كل الحروب تقريباً على مدى تاريخها، وهي في خضمّ سباق مع الوقت، من حيث السعي إلى تحقيق أهدافها قبل أن تضطرّ تحت وطأة الضغوط الدولية إلى التوقّف» في مرحلة ما من عملياتها العسكرية، مشيراً إلى أن تلك الضغوط هي التي أتاحت لها المجال لشنّ عملية برّية في غزة عام 2014، لمدّة لم تتجاوز الثلاثة أسابيع. وكما الموقف الدولي، فإن الموقف الداخلي في إسرائيل، عرضة للتأثّر خلال الحروب. ومن خلال دراسة بيانات الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة، يلفت مركز «راند» للدراسات والبحوث الإستراتيجية، في ورقة بحثية تعود إلى عام 2017، إلى أن «الجمهور الإسرائيلي كان دائماً يميل إلى تأييد العمليات العسكرية، بقدْر ما كانت تحقّقه من تقدّم (على صعيد إنجاز الأهداف المعلنة)، كتدمير مخزونات أسلحة (للمقاومة)، وغير ذلك من النتائج الميدانية الملموسة».