لطالما خضعت سياسة واشنطن الشرق أوسطية، لِما يمكن وصفه بـ»الثوابت» لجهة تأكيدها ما تسمّيه «حقّ إسرائيل في الوجود»، إضافة إلى ما تزعمه في شأن تمسّكها بإقامة «دولة فلسطينية»، ضمن التصوّرات المألوفة من جانب إداراتَيْها الديموقراطية والجمهورية لـ»حل الدولتين». ومع ذلك، لم يخلُ نهج الرؤساء الأميركيين المتعاقبين من «فلتات سياسية»، لعلّ أبرزها قرار دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، تمهيداً لترسيخها «دولة يهودية»، وشرعنة مستوطناتها في الضفة الغربية، إلى جانب إجراءات أخرى، جاءت لتعني عملياً، تصفية الحقوق الفلسطينية تحت عنوان «صفقة القرن»، وهو ما حاولت الإدارة الأميركية الحالية برئاسة جو بايدن «إعادة تجميل» بعض مساوئه، عبر اللجوء إلى قرارات من مثل رفْع حجب التمويل من جانب واشنطن عن «منظمة غوث وتشغيل اللاجئين» (الأونروا).وعلى وقع ما يتواتر، في الأسابيع الماضية، على ألسنة أركان إدارة بايدن من تصريحات بخصوص «حل الدولتين»، علماً أن هذه الإدارة هي سليلة سياسات الرئيس الأسبق باراك أوباما، جاءت تصريحات أدلى بها الأخير لتصبّ في خانة «بعث رميم» تلك التصوّرات في شأن أفق إنهاء الصراع في الأراضي المحتلّة، حين اعتبر أن التصعيد في غزة «يحدث على خلفية عقود من الفشل في تحقيق سلام مستدام لكلّ من الإسرائيليين والفلسطينيين»، داعياً إلى «سلام يقوم على أمن حقيقي لإسرائيل، والاعتراف بحقّها في الوجود». وفي خطاب ألقاه أمام «منتدى الديموقراطية» في شيكاغو، تطرّق أوباما إلى مجريات العدوان الإسرائيلي على غزة، مؤكداً أهمية «إنهاء الاحتلال وإقامة دولة قابلة للحياة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني». واعتبر أنّه «من المستحيل أن تكون محايداً في مواجهة هذه المذبحة وأن تشعر بالأمل»، مضيفاً أنّ «صور العائلات الحزينة، والجثث التي يتمّ انتشالها من تحت الأنقاض، تفرض علينا جميعاً حساباً أخلاقياً». كما حذّر أوباما من أنّ أيّ إجراءات من جانب إسرائيل تتجاهل التكلفة البشرية للحرب ضدّ «حماس» «يمكن أن تأتي بنتائج عكسية في نهاية المطاف». وفي حديث لاحق إلى برنامج «Pod Save America»، أكمل الرئيس الأميركي الأسبق تحذيره من تجاهل تعقيدات الحرب بين إسرائيل و»حماس»، معتبراً أن «جميعنا متواطئون». وبالوقوف عند حصيلة ولايتَيه الرئاسيتَين بخصوص «عملية السلام»، طرح أوباما السؤال التالي: «حسناً، هل كان بوسعي أن أفعل شيئاً آخر؟»، ليجيب: «من المهمّ الاعتراف بالحقائق المتعدّدة المتناقضة ظاهرياً»، واصفاً تصرفات «حماس» بـ»المروّعة»، مستدركاً بأن «الاحتلال وما يحدث للفلسطينيين أيضاً لا يطاقان». ومع بدء موجة التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، كان أوباما نبّه إسرائيل إلى أن إجراءاتها في غزة يمكن أن تؤدّي إلى «تصلّب المواقف الفلسطينية لأجيال»، و»إضعاف موقفها الدولي»، مضيفاً أن «هناك حقيقة مفادها أن ثمة أناساً يموتون حالياً (في غزة) لا علاقة لهم بما اقترفته حماس».

تصريحات أوباما: الحديث الممجوج
واقع الأمر، أن ما قاله أوباما، وما حمله من «انتقاد خجول» لإسرائيل، لا يبدو مستغرباً للبعض، بعدما تحرّر الرجل من «قيود الحكم»، خصوصاً أن فترة توليه سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة لم «تشذّ» عن عهود أسلافه في ما يخصّ الوضع في فلسطين المحتلّة. مع ذلك، وإذ يستذكر هؤلاء، بمزيج من «التقدير» و»الدهشة»، حقيقة قيام إدارة أوباما، في أسابيعها الأخيرة من الحكم، بالامتناع عن استخدام حق النقض «الفيتو» في وجه مشروع في مجلس الأمن الدولي يدين الاستيطان الإسرائيلي، فهم يصرّون على أن ولايتَي أوباما شكّلتا «حالة نموذجية»، مقارنةً بأسلافه، ولا سيما أنه كان يُصنّف في عِداد «المتعاطفين» مع القضية الفلسطينية، إذ افتتح دخوله المعترك السياسي لدى ترشّحه لشغل مقعد في مجلس الشيوخ، بقوله إنه «ما من أحدٍ عانى أكثر من الشعب الفلسطيني»، ومن ثم تدرّج في نهج سياسي «أكثر تفاؤلاً» حين خاض حملته الرئاسية الأولى منادياً بضرورة حلّ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، والمضيّ قدماً في «عملية السلام»، قبل أن يعود، مع توليه الرئاسة، ليؤكد في خطابه الشهير في القاهرة، صيف عام 2009، أن «قيام دولة فلسطينية من مصلحة إسرائيل وفلسطين والولايات المتحدة والعالم». إلا أنه في المحصّلة، انتهت جهود وزير خارجيته، جون كيري، إلى نتائج مخيّبة في ملفّ المفاوضات التي كان من المقرّر أن تستغرق تسعة أشهر للوصول إلى «تسوية» فلسطينية - إسرائيلية، لعدّة أسباب، أبرزها رفض إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين، ووقف الاستيطان.
وبالعودة إلى واقع اليوم، بعد عملية «طوفان الأقصى»، فإن سعي قيادة الحزب الديموقراطي في وقت سابق للزجّ باسم ميشيل أوباما، زوجة الرئيس الأسبق، في سباق الانتخابات الرئاسية، ومن ثم الإطلالة الأخيرة لأول رئيس أميركي من أصول أفريقية مسلمة، يبدوان، بالنسبة إلى البعض، أقرب إلى محاولات لاستمالة فئة الأفارقة والمسلمين في «رئاسيات 2024»، المتعاطفة تقليدياً مع الشعب الفلسطيني، كجزء من إستراتيجية انتخابية مشابهة اعتمدها الحزب عام 2020، من جهة، و»إعادة تسويق» المسار التفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين لإعطاء دفعة جديدة للتطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل، من جهة ثانية.
خسارة بايدن أصوات المسلمين في ميشيغان وفيرجينيا وجورجيا وأريزونا، وهي الولايات الأربع التي فاز فيها في عام 2020، قد تكلّفه غالياً العام المقبل


كذلك، يرى آخرون أن ما يرمي إليه أوباما لا ينفصل عن محاولات «الديموقراطي» رصّ صفوفه وتوحيد مواقف قياداته، استعداداً لخوض استحقاق الانتخابات الرئاسية والتشريعية العام المقبل، في ظلّ ما يُشاع عن تفاقم الانقسامات الداخلية بسبب الحرب في غزة، ولا سيما أن إطلالة الرئيس الأسبق تزامنت مع حديث مماثل للسناتور الديموقراطي (التقدمي)، بيرني ساندرز، طالب فيه بـ»وقف الذبح العشوائي للأبرياء» في غزة. وأعرب ساندرز، عبر حسابه في موقع «إكس»، عن استهجانه الواقع الإنساني الصعب في القطاع، مستنكراً استهداف المستشفيات وقطع الماء والغذاء والوقود باعتباره «كارثة إنسانية كاملة». وأقرّ عضو مجلس الشيوخ الأميركي بما سمّاه «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، مستدركاً بالقول إنّ «ما يفعلونه الآن بطريقة عشوائية، من قصف مخيمات اللاجئين وسيارات الإسعاف وقتل الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء في انتهاك للقانون الدولي، هو ببساطة أمر غير مقبول... ويجب أن يتوقف». وأردف: « نعم، لديك الحق في الدفاع عن نفسك، لكنّ الأطفال الفلسطينيين لا يقلون أهمية عن الأطفال الإسرائيليين». وفي معرض حديثه عن المساعدات الأميركية السنوية لإسرائيل، والمقدّرة بنحو 3.8 مليارات دولار سنوياً، كتب ساندرز عبر «إكس»: «الآن يمكنهم (أي الإسرائيليين) القول إنهم لا يريدون المال، حسناً. لكن إذا كانوا سيأخذون أموالنا وكان (الرئيس الأميركي جو) بايدن يريد أن يمنحهم المزيد، فعليهم أن يدركوا أنهم لا يستطيعون الإساءة إلى الأميركيين وقيمهم، وما نمثله، وما يمثله العالم المتحضر».

استرضاء «الصوت المسلم»
ترافق كلام أوباما، مع تصاعد موجة الاعتراض على استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، في أوساط الرأي العام العالمي، والأميركي على حدّ سواء، وتحديداً في صفوف الأميركيين من أصول عربية وإسلامية، بعدما شهد الأسبوع الجاري فعاليات احتجاجية غير مسبوقة في نحو 44 منطقة داخل الولايات المتحدة، من بينها تظاهرة في العاصمة واشنطن ضمت نحو 300 ألف شخص، هي الأضخم في تاريخ التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين في البلاد. وبدا لافتاً أن التظاهرات التي نادت بـ»الحرية لفلسطين»، داعيةً إلى «وقف المذبحة» في غزة، حملت إشارات تحذيرية ذات مضامين انتخابية إلى إدارة البيت الأبيض، من بينها لافتات كُتب عليها: «بايدن يخوننا»، و»سنتذكر في نوفمبر»، في إشارة إلى موعد الانتخابات المرتقبة في عام 2024. ومن هنا، يرى البعض أن محاولة إدارة بايدن «تعديل» نهجها حيال ما يجري في غزة، وتلميح الرئيس الأميركي قبل أيام إلى أن بلاده تقود مساعيَ لإقناع حكومة بنيامين نتنياهو بالموافقة على «هدنة إنسانية» هناك، معطوفة على مواقف قيادات ديموقراطية كأوباما، وساندرز، إنّما يندرج كله ضمن محاولاتها استرضاء الرأي العام المحلي.
ولشرح تبعات موقف بايدن من العدوان على غزة في أوساط المسلمين الأميركيين، ممّن تشير الإحصاءات إلى أن نحو 66% منهم يعتبرون أنفسهم ديموقراطيين، في مقابل 13% منهم يعبّرون عن أنفسهم كمناصرين للجمهوريين، حذّرت النائبة عن الحزب الديموقراطي في ولاية واشنطن، براميلا جايابال، الرئيس الأميركي من مغبة خسارة أصوات الناخبين المسلمين، ملمّحة إلى أنّ موقف الرئيس الضعيف حيال حرب إسرائيل ضدّ «حماس» «قد يكلّفه أصوات المسلمين الأميركيين»، داعية إيّاه إلى أن «يكون شجاعاً» في عرض وجهة نظره حيال هذه القضية بهدف الحفاظ على ما وصفته بـ»الوحدة داخل بلدنا»، كما كان عليه الحال في انتخابات عام 2020. ومن جهته، رأى الناشط في الحزب الديموقراطي، وليد شهيد، أنّ «شرخاً عميقاً حدث في قلوب العديد من الديموقراطيين الأميركيين المسلمين والعرب»، موضحاً أنهم «يرون أنّ الرئيس لا يساوي بين حياة الفلسطينيين وحياة الإسرائيليين». وشدّد شهيد، وهو المتحدث السابق باسم السناتور بيرني ساندرز، على أن الانتخابات الرئاسية «ستقرّرها بضع مئات الآلاف من الأصوات في عدد قليل من الولايات»، مشيراً إلى أنّ خسارة أصوات المسلمين في ميشيغان وفيرجينيا وجورجيا وأريزونا، وهي الولايات الأربع التي فاز فيها بايدن في عام 2020، قد تكلّفه غالياً العام المقبل.