فاز الاقتصادي الليبرالي المتطرف، خافيير ميلي، الملقّب بـ«ترامب الأرجنتين»، والمعروف بدعمه الكبير لإسرائيل، بالانتخابات الرئاسية في بيونس أيرس، الأحد، بحصوله على 55,95%، مقابل حصول منافسه، وزير الاقتصاد الوسطي، سيرخيو ماسا، على 44,04%، بعد فرز 86% من الأصوات، ما جعل الأخيرّ يقر بهزيمته قبل انتهاء الانتخابات، ويتّصل بميلي لتهنئته. وفيما يحذّر بعض المراقبين من أن النتائج الأخيرة «ستقفز» بالأرجنتين إلى «المجهول»، اعتبرها الرئيس المُنتخب، في المقابل، خطوة في اتجاه «إعادة إعمار» البلاد. كما تعهّد ميلي بالشروع في بناء نموذج «الدولة الحارسة»، بما يشمله ذلك من تقليص في الخدمات والتقديمات الحكومية، وصولاً حتى إلى إغلاق «المصرف المركزي» في البلاد، ودولرة الاقتصاد بشكل كلّي، لمنع طباعة المزيد من «البيزو». ومن المتوقع أن تكون لفوزه هذا آثار فورية وقوية على الداخل الأرجنتيني، بدأت تظهر فعلاً في صورة انخفاض في قيمة «البيزو»، بعدما سارع الكثير من الأرجنتينيين إلى التخلّص منها، فور صدور النتائج. وعلى مستوى السياسة الخارجية، برز، قبيل الانتخابات، حديث وسائل إعلام عبرية عن أن ميلي هو المرشح الوحيد الذي دافع علناً، ولسنوات، «عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، ودان «الإرهاب الإسلامي بشكل لا لبس فيه»، وأظهر، حتى قبل أن يصبح مشهوراً، «تقارباً مع اليهودية». وفي مقابلة مع صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» العبرية، نُشرت الأحد، قال ميلي: «لقد كان موقفي واضحاً جداً، وعبّرت عنه في خطابي الأخير في الكونغرس. في الواقع، أنا لا أدين الأعمال الإرهابية لـ(حماس) فحسب، بل أعرب عن تضامني مع إسرائيل»، مذكّراً بأنّه تقدّم باقتراح لتصنيف «حماس» على أنها «جماعة إرهابية». ولدى سؤاله عمّا إذا كان يعتقد فعلياً بأنه يجب نقل سفارة بلاده لدى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، ردّ ميلي: «بالطبع. لا يهمّني ما إذا كنت سأتعرّض للانتقاد من قادة العالم. لأنني أعتقد حقاً أن هذا هو الشيء الصحيح الذي يجب فعله».
وسيتولّى ميلي الرئاسة في الـ 10من كانون الأول القادم، في وقت يبلغ فيه مستوى التضخم في الأرجنتين نحو 143%، ما أفقد الأرجنتينيين قوتهم الشرائية، ودفع بـ 40% منهم إلى تحت خطّ الفقر. وهذا يفسّر، على الأرجح، سبب قبولهم بمرشح يؤكد أنه لن يقبل بـ«أنصاف الحلول»، ويعِد بتغيير «جذري وسريع» وكلّي في نمط السياسة المتّبع سابقاً، وبانقلاب على المؤسسات التقليدية، بعدما فقدوا الأمل في سياسة «الاستمرارية» التي قادها ماسا وحركته البيرونية، ولو أن سياسات ميلي ستكون، طوال الفترة القادمة، قيد الاختبار، وتبدو نتائجها مجهولة، ورهناً للوقت فقط.
ميلي هو المرشح الوحيد الذي دافع علناً، ولسنوات، «عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، ودان «الإرهاب الإسلامي بشكل لا لبس فيه»


في الواقع، تجمع صفات كثيرة مشتركة بين الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وميلي المنتخب حديثاً؛ بدءاً من تصفيفة الشعر الفوضوية، وصولاً إلى اعتبار التغيّر المناخي «كذبة اشتراكية»، والمناكفات مع الصحافيين والتشكيك في «مصداقية وسائل الإعلام»، والمقابلات المثيرة للجدل، والتي لم يتردّد، خلالها، في استخدام شتّى أنواع الشتائم لإيصال أفكاره أو الحديث عن خصومه. بمعنى آخر، فإن أكثر صفة في ميلي تذكّر بترامب، هي أسلوبه السياسي «العدائي»، والذي وصل إلى حدّ وصف البابا فرنسيس، الأرجنتيني الأصل، بـ«اليساري الشرير»، والصين، التي تعدّ ثاني أكبر شريك تجاري للأرجنتين، بالدولة «القاتلة». كما تعهّد الرئيس الجديد بجعل الضوابط على الأسلحة أكثر مرونة، تماشياً مع تبنّيه المطلق لسياسة السوق الحرة، وإجراء استفتاء حول إلغاء قانون الإجهاض الذي تمّ إقراره في البلاد منذ نحو ثلاث سنوات. كذلك، زعم، في سيناريو أصبح معهوداً لدى مرشحي اليمين المتطرف، أنّه ضحية لـ«تزوير الانتخابات»، مشكّكاً أيضاً في صحة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة والبرازيل، ومدعياً أن أعمال الشغب التي تلتها كانت «مؤامرات» حاكها اليسار، ما جعل المراقبين يتخوفون من أنّه سيثير الكثير من المتاعب في حال خسارته الانتخابات الأخيرة. إلا أنّ موقفه من الإجهاض وقضايا أخرى لا يعني أنّه لم يتبنّ موقفاً أقلّ تحفظاً في بعض القضايا الاجتماعية الأخرى، معتبراً أنّه «ما الدولة لا تدفع ثمنها»، فمن الممكن دعم الهجرة المفتوحة، وحقوق المتحوّلين جنسياً، وزواج المثليين، وبيع الأعضاء، وغيرها، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز».
ومن الواضح أن العديد من الشخصيات الدينية لم تكن راضية عن وصول الرئيس البالغ من العمر 53 عاماً إلى السلطة. وفي السياق، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية تقريراً تتحدث فيه عن أنّ عدداً من رجال الدين الأرجنتينيين، نزلوا إلى الشوارع وطرقوا أبواب المواطنين، ليحذّروهم من اتّخاذ خيار «متسرّع»، في إشارة إلى التصويت لميلي. ونقلت الصحيفة عن قسّ قوله، لأحد الشبان على الطريق، قبل الانتخابات بأيام: «نحن مجموعة من القساوسة المسيحيين، نوزع المناشير لتأخذها بالاعتبار يوم الأحد المقبل»، وتابع: «نحن لا نقول لك لمن يجب أن تصوّت. لكننا لا نريد أن نسمح لأنفسنا بالانجراف إلى الكراهية أو الغضب أو الحماسة».

نحو «المجهول»
وحالياً، تثير طروحات ميلي قلقاً واسعاً في أوساط المراقبين والمختصين في الأرجنتين وخارجها، حول الضرر الذي يمكن أن تلحقه حكومته بثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية. فهو يريد حصر دور الحكومة بعدد قليل جداً من الوظائف، ويعِد بخفض عدد الوزارات الفيدرالية من 18 إلى ثماني وزارات، واعتبار الدول التي تريد فقط «محاربة الاشتراكية» حليفة الأرجنتين، وتحديداً الولايات المتحدة وإسرائيل. وفي السياق، اعتبرت وكالة «بلومبرغ»، في تقرير بعنوان «راديكالية ميلي الغاضبة ليست ما تحتاج إليه الأرجنتين»، أنّ «الدولار» ليس هو ما تحتاج إليه الحكومات غير القادرة على إدارة الضرائب وعمليات الإنفاق بمسؤولية، متابعاً: «أولئك الذين لا يستطيعون القيام بذلك سيزيدون الوضع سوءاً، مع مصارفهم المركزية أو بدونها»، مشكّكاً في أن يكون ميلي، أو أيّ من منافسيه حتى قادرين على حكم البلاد بشكل سليم، والارتقاء إلى مستوى «المهمّة المطلوبة». ويتابع أصحاب هذا الرأي أنّه فيما قد تعزّز الدولرة «الانضباط» في بعض الأحيان، إلا أنّها تبقى استراتيجية غير مضمونة، ولا سيما أن الحكومة ستظلّ قادرة على الاقتراض (بالدولار)، أكثر مما ستكون قادرة على سداده.
وفي تقرير آخر نشرته الوكالة نفسها بعنوان «الأرجنتين تقفز إلى المجهول مع خافيير ميلي رئيساً»، رأى مراقبون أنّ خطّة «العلاج بالصدمة» التي يروّج لها الرئيس المنتخب تضع الأرجنتين في مواجهة «عدم يقين كبير»، حيث حذّر بعض الاقتصاديين من أن دولرة الاقتصاد البالغ 622 مليار دولار، «في وقت تنضب فيه الاحتياطيات الدولية»، يمكن أن تسبّب للدولة اللاتينية نوبة أخرى من التضخم المفرط. وإلى جانب الرؤساء المتطرفين حول العالم، يبدو أن فوز ميلي «أسعد» مسؤولي «صندوق النقد الدولي»، الذين دعوا، في وقت سابق، الحكومة المقبلة في الأرجنتين إلى إعادة «ضبط الاقتصاد» بسرعة، مؤكدين أنه «ما من وقت لاتّباع سياسات تدريجية». وفي هذا الإطار، هنأت المديرة العامة للصندوق، كريستالينا جورجيفا، ميلي، في منشور عبر «إكس»، مؤكدةً أنّها تتطلّع «إلى العمل عن كثب معه ومع إدارته».

عودة اليمين المتطرف
ستكون خطة ميلي المتطرفة لإخراج البلاد من أصعب أزمة اقتصادية في عقدين محطّ أنظار العديد من المراقبين والمواطنين الأرجنتينيين، لسنوات قادمة. على أنّه ممّا لا شكّ فيه، أنّه يُنظر إلى فوزه، حالياً، كـ«انتصار للحركة اليمينية المتطرفة العالمية»، التي اكتسبت زخمها مع انتخاب ترامب وغيره، على غرار جايير بولسونارو في البرازيل، على الرغم من النكسات التي تعرضت لها في السنوات السابقة. ورحّب كلّ من بولسونارو وترامب وحزب «فوكس» الإسباني اليميني المتطرف، بفوز ميلي، فيما اعتبر رئيس «تيسلا»، إيلون ماسك، أن الأرجنتين على موعد مع «الازدهار»، بعد انتخابه. في المقابل، نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن المحلل السياسي الأرجنتيني، لوكاس روميرو، قوله إن ميلي سيتولى منصبه كـ«أضعف» رئيس خلال الـ 40 عاماً الماضية، أي منذ عودة البلاد إلى الديموقراطية، «لا لأنّه يفتقر إلى الأغلبية في الكونغرس فحسب»، ولكن أيضاً لأنه مدين، بجزء على الأقلّ من انتصاره، للرئيس الأرجنتيني الأسبق، ماوريسيو ماكري، الذي منحه تأييده قبل أسابيع فقط من عملية الاقتراع.