أكدت زيارة اليوم الواحد التي قام بها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى تركيا، أول من أمس، ما هو قائم منذ عقود. فالزيارة التي تم تأجيلها أخيراً أكثر من مرّة، كان محتوماً عليها أن تتحقّق؛ ذلك أن البلدَين حفظا «درس» الجيوبوليتيك وتوازن القوى جيداً، ولا يضير في هذا أن يكون الحُكم في إيران إسلاميّاً أو غيره، وفي تركيا علمانيّاً أو إسلاميّاً. وباستثناء إشارة رئيسي إلى معاداة الكيان الصهيوني، فإن ما صدر من مواقف، وما وُقّع من اتفاقات بين البلدَين، أثبت مرّة أخرى أنهما يمكن أن يذهبا في التنافس بينهما إلى أقصاه في الفضاءات الإقليمية لكلّ منهما، ولكنهما غير مستعدّين للتخلّي عن التعاون في كل المجالات الممكنة، علماً أن زيارة رئيسي كانت خطوة مهمّة لتثبيت دعائم التعاون في تلك المجالات.وجاءت الزيارة في وقت حسّاس وخطير جداً من تاريخ المنطقة، خصوصاً بعد توسّع التوتّر فيها وامتداده من غزة إلى البحر الأحمر وباكستان، فضلاً عن استهداف الهجمات الإيرانية قواعد كردية وأميركية في العراق وفي سوريا، وهو ما أشار إليه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، حين قال إن «المحادثات شملت فلسطين وسوريا والعراق وأفغانستان وجنوب القوقاز». ورغم كثرة العناوين التي تهمّ البلدَين، فقد احتلّت فلسطين موقعاً مركزيّاً في المباحثات، إذ أشار الرئيسان إلى أنها تقع في عين اهتمامهما. وفي هذا الجانب، أكد إردوغان دعم الشعب الفلسطيني وتقديم المساعدات إليه عبر مصر، مبيّناً أن تركيا «أرسلت، حتى الآن، 17 طائرة، وخمس سفن محمّلة بالمساعدات الإنسانية، بما مجموعه 30 ألف طن، منها 26 ألف طن من الطحين»، كما أنها «استقبلت 380 مريضاً وجريحاً، يرافقهم 344 شخصاً، للعلاج». وقال: «لن ندع أبداً إخوتنا الفلسطينيين وحدهم، والنصر سيكون حليفهم».
من جهته، ذكّر رئيسي بأن «الدعم الغربي للنظام الصهيوني واضح، والمجازر التي تحدث، تقوم بها أصلاً الولايات المتحدة»، مضيفاً أنه «متأكد من أن التعاون مع تركيا والدول الأخرى سيكون مؤثّراً في القضية الفلسطينية. ولكن يجب اتّخاذ مواقف ضدّ النظام الصهيوني إذ تكون رادعة، وأن تُقطع العلاقات السياسية والاقتصادية معه لإنهاء الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني». كذلك، أعرب عن تقديره لموقف الشعب التركي الداعم للقضية الفلسطينية، ولكنّ إشارته إلى دعم أنقرة لمحور المقاومة كانت لافتة، إذ قال، في المؤتمر الصحافي المشترك مع إردوغان: «لقد كانت مواقفنا متطابقة في خصوص القضية الفلسطينية ودعم محور المقاومة وإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه».
إردوغان: «إيران هي إحدى بوابات تركيا إلى آسيا، فيما تركيا هي بوابة إيران إلى أوروبا»


أيضاً، شكّل العراق موضوعاً مهمّاً على جدول أعمال الرئيسَين، إذ دعا إردوغان، رئيسي إلى التعاون لمواجهة نشاطات «حزب العمال الكردستاني» في مدينة السليمانية في إقليم كردستان العراق، حيث لإيران علاقات جيدة مع «الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة بافل طالباني، والذي تتّهمه أنقرة بحماية «الكردستاني» هناك. ولم يتردّد الرئيس الإيراني، من جهته، في القول إن «أمن تركيا من أمن إيران، وأمن دول المنطقة هو أمن لإيران». ومع أن الرئيسَين ناقشا الوضع في جنوب القوقاز، غير أنه لم يرشح شيء عن تفاصيل ما دار بينهما حول الوضع في هذه المنطقة، علماً أنّ البلدَين يخوضان تنافساً شرساً على النفوذ هناك، ولا سيما في ظلّ الانزعاج الإيراني الكبير من خطط تركيا وآذربيجان لفتح «ممرّ زنغيزور» البري بينهما عبر الأراضي الأرمينية، والذي تعارضه إيران بشدّة، لِما له من تأثير على نفوذها الجيوبوليتيكي.
كذلك، كان تطوير التعاون الاقتصادي على رأس القضايا التي نوقشت؛ إذ إن حجم التجارة بين البلدَين بلغ في عام 2011، 22 مليار دولار، غير أن أحداث «الربيع العربي» والعقوبات الغربية على إيران، أثّرت سلباً على هذا التعاون، فتراجع إلى سبعة مليارات دولار عام 2022. لكن أنقرة وطهران تستهدفان، وفقاً لرئيسي، الوصول بحجم التجارة بينهما إلى 30 مليار دولار في السنوات القليلة المقبلة. ومن جانبه، عزا إردوغان هذا التراجع، إلى انتشار وباء «كورونا» من جهة، والعقوبات الغربية على الجمهورية الإسلامية من جهة أخرى، والتي أكد أنه يعارضها. كما عرض الرئيس التركي واقع العلاقات بين البلدين، فقال إن «عدد سكانهما يتجاوز الـ170 مليوناً، وفيهما موارد طبيعية عظيمة وقدرات بشرية، وكانا عبر التاريخ مهد الحضارات وعلاقاتهما متعدّدة الأبعاد ومتجذّرة»، مشيراً إلى أن «إيران هي إحدى بوابات تركيا إلى آسيا، فيما تركيا هي بوابة إيران إلى أوروبا». أيضاً، كشف إردوغان أنه رغم العقوبات وهروب العشرات من الشركات الغربية، إلا أن مجموع الشركات التركية العاملة في إيران يبلغ أكثر من 200 شركة، فيما وصل مجموع المشاريع التي تنفّذها تركيا في البلد الجار، إلى 56 مشروعاً بقيمة 4.6 مليارات دولار. وفي خطوة مهمّة لتنشيط التجارة الثنائية، أعلن إردوغان أن بلاده تعمل على إتمام الأعمال في بوابة العبور الجديدة البرية بين البلدَين، وهي غوربولاق - بازركان، والتي بدأ العمل بها في عام 2021، ومن المفترض، عند تدشينها، أن تخفّف من الضغط على بوابتَي العبور في إيسين ديره وديلوجو، معرباً عن سروره لترجيح السائحين الإيرانيين تركيا على أيّ بلد آخر، علماً أن عدد هؤلاء قارب الثلاثة ملايين عام 2023.
وإلى جانب ما تقدّم، شكلت الزيارة مناسبة لاجتماع «مجلس التعاون الأعلى الإيراني - التركي» للمرّة الثامنة برئاسة إردوغان ورئيسي، حيث وقّع البلدان عشر اتفاقيات في مجال الاتصالات، التجارة الحرّة، الثقافة، الإعلام، المواصلات، الصناعة، العلوم، السياحة، قطاع الشرطة والسير والطيران، وقطاع الطاقة.