أمل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، من وراء تعيينه حفيظة غايه إركان حاكمةً للمصرف المركزي، في أن تكون تجربتها مختلفة عمَّن سبقوها، وأن تسهم في انتشال الاقتصاد التركي من أزمته المستمرّة منذ عام 2018 تقريباً. لكن إركان دخلت التاريخ كصاحبة ثاني أقصر مدّة في هذا المنصب (ثمانية أشهر) في حقبة «حزب العدالة والتنمية»، مع أن إردوغان أراد بتعيينها، في حزيران الماضي، أن يشكّل فريق عمل اقتصادياً «قادراً» يجمع بين الكفاءة الشابة (إركان) الآتية من الغرب، وبين التجربة الناجحة السابقة لوزير المالية (السابق والحالي)، محمد شيمشيك.وكان قد بدأ الاقتصاد التركي يترنّح بعد عام 2016، على إثر محاولة الانقلاب التي اتّهم إردوغان الغرب ودولاً خليجية بالوقوف وراءها، وتزامناً أيضاً مع حروب التدخّل التركي المباشرة في سوريا والعراق وليبيا، والتي أرخت بدورها عبئاً إضافياً على الاقتصاد، أدى إلى تدهور سعر الليرة، وتبخّر القدرة الشرائية للرواتب. ثمّ جاءت الانتخابات البلدية عام 2019، لتشكّل هي الأخرى ضربةً سياسية قوية لإردوغان بدأ يتحسّس تأثيراتها القوية على مستقبله السياسي. ومن هذه الخلفية، انطلق حَراكه للمصالحة مع أطراف أمِل في أن تؤثّر إيجاباً في الوضع الاقتصادي: إسرائيل (بوابة الولايات المتحدة) والإمارات والسعودية، حتى كان له ما أراد لجهة تدفّق المال الخليجي والرضى الإسرائيلي، وهو الأمر الذي أسهم في تعويم الليرة التركية نسبياً وثباتها عند حدود الـ20 ليرة مقابل الدولار الواحد، عشية الانتخابات النيابية والرئاسية في أيار الماضي، وكذلك - وهذا الأهمّ - في تولّي إردوغان منصب الرئيس مجدّداً. لكن ما إن انتهت الانتخابات ومعها «مهمّة» المال الخليجي، حتى قفز الدولار إلى 25 ليرة دفعة واحدة. وعلى خطّ موازٍ، كان يؤخذ على إردوغان تدخّله الدائم في عمل الخبراء الاقتصاديين، إلى درجة أنه زعم ذات مرّة أنه «خبير في الاقتصاد». فكان كلّما تراجع سعر صرف الليرة وازداد التضخّم، يحمّل حاكم المصرف المركزي المسؤولية ويقيله. وعلى هذا الأساس، غيّر إردوغان، بين عامَي 2019 و2023، أربعة حكام لـ«المركزي»، لا بل إن أحدهم، ناجي آغبال، تولّى الحاكمية في نهاية 2020 وبداية 2021 لمدة أربعة أشهر فقط.
لم يتأخّر إردوغان في تعيين حاكم جديد حتى يقطع الطريق على موجة عدم الثقة التي يمكن أن تنشأ من «استقالة» إركان


وإذ كانت تركيا قد نجحت في إنعاش اقتصادها عندما اتّبعت سياسة «صفر مشكلات» مع معظم الدول، فإن تدهور علاقاتها سابقاً مع غالبية محيطها، ودخولها ما سمّي «العزلة الثمينة»، فرضا على إردوغان الاتكاء على «المال الداخلي»، وتجربة ما إذا كان التضخّم نتيجة لسياسة الفوائد العالية أم العكس، علماً أن الرئيس من أنصار تخفيض الفائدة، على اعتبار أنها تسبّب التضخّم، الذي كان يقيل على خلفيته الحكام. لكن هذه السياسة لم تؤتِ أُكلها، إذ إن شيمشيك وإركان، اللذين جاء بهما بعد الانتخابات، وصل الارتفاع التدريجي للفوائد في المصارف في عهدهما إلى 42.5%. ومع ذلك، تراجع سعر صرف الليرة إلى 30 ليرة مقابل الدولار. وفي هذه اللحظة، وجد إردوغان أن برامج التقشّف لا تناسب توجّهاته السياسية، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية، التي يعوّل كثيراً على نتائجها ليحدّد سياسته المستقبلية في الداخل، ولا سيما لجهة تعديل الدستور بما يتيح له الترشّح مجدّداً للرئاسة، وإعادة تشكيل بعض المؤسسات، وعلى رأسها «المحكمة الدستورية» بما يتناسب مع تطلعاته.
ويخشى إردوغان، في حال فوز مرشّح المعارضة، أكرم إمام أوغلو، من أن يشكّل الأخير خطراً على مرشّح «العدالة والتنمية»، سواء أكان إردوغان أم غيره، في انتخابات الرئاسة لعام 2028. لذا، فإن المعركة الرئاسية المقبلة تبدأ من معركة إسطنبول البلدية، والأخيرة تبدأ من توفير أكبر قدر ممكن من الدعم المالي لمرشّح السلطة مراد قوروم، ما يوجب فتح الخزائن بعيداً من سياسات إركان وشيمشيك، علماً أن الأخير رجل سياسة، وكان من أركان حكم إردوغان قبل سنوات و«يفهم» عليه، كما أنه لا يريد أن يستقيل حتى لا يذكره التاريخ بأنه فشل في تجربته الثانية بعدما كان ناجحاً في حقبته السابقة. أمّا إركان، فلم تتحمّل على ما يبدو الضغوط السياسية وانتشار الحملات المنظّمة ضدّها على مواقع التواصل الاجتماعي - بما شمل اتهامها مثلاً بأن والدها يعمل بصورة غير شرعية في مؤسسة البنك المركزي -. وهي ذكرت في كتاب استقالتها أنها «طلبت إعفاءها» من تولّي المسؤولية، في ما يمثّل أقلّ من استقالة ويبدو أقرب إلى الإقالة، وهو ما دلّ عليه أيضاً بيان إعفائها، الذي سيمكّنها، وفقاً للقانون، من الحصول على رواتبها لمدّة سنتَين إضافيّتَين.
ولم يتأخّر إردوغان في تعيين حاكم جديد حتى يقطع الطريق على موجة عدم الثقة التي يمكن أن تنشأ من «استقالة» إركان، فاختار نائب رئيس المركزي، فاتح قره خان (1982)، حاكماً جديداً، علماً أن الأخير تخرّج من جامعة «بوغازتشي»، وأكمل دراسته العليا في جامعة «بنسلفانيا»، حيث نال شهادة الدكتوراه، ثم عمل في مواقع مالية استشارية ودرّس في جامعتَي «كولومبيا» و«نيويورك»، وفي الـ28 من تموز الماضي، عُيّن نائباً لحاكمة المصرف المركزي. ولكنّ السؤال ليس ما إذا كان قره خان سينجح في مهمّته الجديدة، بل ما إذا كان التشابك المالي - السياسي سيعرف نهاية له، على الأقل بعد الانتخابات البلدية في 31 آذار المقبل.