لندن | في سابقة لم تحدث منذ تأسيس إقليم إيرلندا الشمالية، قبل مئة عام - عندما تم استثناء المقاطعات الست في أقصى شمال الجزيرة من اتفاق أدّى إلى اعتراف بريطانيا بقيام الجمهورية في دبلن بعد احتلال استمر لِما يقرب من 500 عام -، تولّت زعيمة «الحزب القومي الإيرلندي» (شين فين)، ميشيل أونيل، منصب الوزيرة الأولى (رئيسة الوزراء) للإقليم الذي يتقاسمه البروتستانت والكاثوليك، بعدما أصبحت كتلة حزبها هي الأكبر في البرلمان المحلّي، وإنْ بقيت الأحزاب الداعية إلى إعادة توحيد الجزيرة دون حاجز الأغلبية. وعبّرت أونيل، التي ألقت على البرلمان في ستورمونت خطاباً افتتاحياً مفعماً بالعواطف عن هذا التحوّل التاريخي، قائلةً: «أنْ يأتي مثل هذا اليوم، أمرٌ لم يكن ممكناً لأجيال والديّ وأجدادي تصوّره على الإطلاق». وعلّقت زعيمة «شين فين» في جمهورية إيرلندا، ماري لو ماكدونالد، على تولّي أونيل المنصب الأهمّ في السلطة المحلّية في بلفاست، عاصمة الإقليم الشمالي الخاضع لحكم بريطانيا، قائلة إنه «يُطلِق حقبة جديدة في السياسة الإيرلندية، ويجعل من مسألة توحيد شطري الجزيرة قريبة». ومع تفوّق شعبية «القومي» على حزبَي الحكومة الائتلافية، فإن تزايد فرص وصول قيادات من حزبٍ غاية وجوده تخليص الجزيرة نهائياً من الاستعمار البريطاني، إلى السلطة في كلا الشطرَين معاً، دفع البعض إلى التفاؤل بإمكان تحقُّق الحلم التاريخي المؤجّل. لكن مراقبين يقولون إن غلبة البرجوازيين على طرفَي الواجهة السياسية لـ«الجيش الجمهوري الإيرلندي» في كلٍّ من بلفاست ودبلن، تشير إلى أن الثمن لتحقيق صيغة ما لإعادة توحيد الجزيرة سيكون باهظاً، وسينتج نظاماً سياسياً أبعد ما يكون عن فكرة «الثورة» التي قاتلت واستشهدت من أجلها أجيال من مناضلي «الجيش الجمهوري الإيرلندي».
وكان إقليم إيرلندا الشمالية - الذي تأسّس في كانون الأول 1920 وأَعلنت وقتها بريطانيا ضمّه إلى المملكة المتحدة - موضع تجاذب دائم بين السكان المحلّيين الذين ينقسمون إلى بروتستانت موالين لبريطانيا ينحدر معظمهم من أصول إنكليزية، وكاثوليك من السكان الأصليين للجزيرة المناهضين لسلطة لندن. وخاض «الجيش الجمهوري الإيرلندي»، نواة حزب «شين فين» الحالي، صراعاً دموياً استمرّ عقوداً، في سعيه إلى طرد الاستعمار وتوحيد الإقليم مع الجمهورية التي قامت في الشطر الجنوبي من الجزيرة، قبل أن ينجح الأميركيون في إقناع أطراف النزاع بتوقيع اتفاق «الجمعة العظيمة» (1998)، الذي أنهى أعمال العنف، وأفضى إلى ترتيب سلمي لتقاسم السلطة المحلّية في الإقليم.
على أن الاختراق الأخير للجمهوريين حصل في انتخابات البرلمان المحلّي في أيار 2022، عندما حاز «شين فين» أكبر كتلة نيابية، متغلّباً على «الحزب الوحدوي الديموقراطي» الذي يمثّل البروتستانت، علماً أن الأحزاب الداعية إلى توحيد الجزيرة لم تحصل على الغالبية. وكان البرلمان السابق بقيادة «الوحدويين الديموقراطيين» انسحب من اتفاق تقاسم السلطة في شباط 2022، احتجاجاً على بروتوكول ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، والمرتبط بترتيبات التجارة بين الإقليم والاتحاد الأوروبي، إذ عارضت غالبية السكان فكرة الخروج من عضوية بروكسل. ويبدو أن إحباط هؤلاء من شلل الحكومة المحلّية في الإقليم، ومعاناتهم من الفوضى في أنظمة الصحة والرعاية الاجتماعية، في غياب الوزراء التنفيذيين، قد جاء لـ«الوحدويين الديموقراطيين» بنتائج عكسية، تمثّلت في تقدّم خصومهم الجمهوريين، واضطرارهم الآن بعد ضغوط من واشنطن ولندن للعودة إلى البرلمان، وعقْد صفقة لتقاسم السلطة مجدّداً، ولكن هذه المرّة تحت قيادة وزير أول جمهوري.
لا تزال قاعدة «شين فين» تضغط من أجل إجراء استفتاء شعبي على استقلال إقليم إيرلندا الشمالية عن بريطانيا


وبموجب الاتفاق، الذي تفاوض عليه مع لندن زعيم «الحزب الديموقراطي الوحدوي»، جيفري دونالدسون، تم أيضاً تعيين إيما ليتل بينجيلي نائبة للوزير الأول، وهي من خلفية موالية لبريطانيا بشدّة، ووالدها كان من عتاة البروتستانت الذين خدموا ضمن قوات الجيش البريطاني المتمركزة في إيرلندا الشمالية. ويبدو أن اختيارها جاء لإرضاء الغاضبين داخل «الديموقراطي»، ممَّن رفضوا مبدأ إعادة تفعيل برلمان ستورمونت. وقالت بينجيلي، في خطاب تنصيبها، إنها ملتزمة بالعمل مع أونيل لحلّ المشكلات في مجال الصحة والخدمات الاجتماعية، لكنها «لن تساوم إطلاقاً على سلامة الاتحاد مع بريطانيا». ومن جهتها، قدّمت أونيل نفسها كوزيرة أولى لجميع السكان، مؤكدة أنها، كجمهورية وكاثوليكية، ستحترم الطرف الآخر وهويته وثقافته وتقاليده. كما أعربت عن «أسفها لجميع الأرواح التي فقدت خلال الصراع - من دون استثناء».
في هذا الوقت، لا تزال قاعدة حزب «شين فين»، ولا سيما في فرعه في دبلن، تضغط من أجل إجراء استفتاء شعبي على استقلال إقليم إيرلندا الشمالية عن بريطانيا، بموجب شروط اتفاقية «الجمعة العظيمة». لكن الإجراء الخاص بأيّ استفتاء من ذلك النوع، يعود تقديره بالكامل إلى الوزير المكلّف بشؤون إيرلندا الشمالية في الحكومة البريطانية، علماً أن الاتفاقية لا توضح ما الذي يجب أن يسترشد به قرار الوزير المذكور. ويجادل البعض بأنه يمكن لغالبية كاثوليكية في البرلمان ومن حيث التعداد السكاني، أن تدفع في الاتجاه المذكور، علماً أن آخر تعداد أجري قبل عامين أفاد بأن نسبة الكاثوليك قد تعدّت، للمرة الأولى، مواطنيهم البروتستانت، وقاربت 46% مقابل 44%. لكن تمثيل القوميين والجمهوريين في البرلمان لم يصل بعد إلى الأغلبية البسيطة، ما يسمح لوزير إيرلندا الشمالية بالمماطلة في شأن إجراء استفتاء.
وبحسب الخبراء، فإن لندن ستقاوم وبشدّة أيّ محاولات لتوحيد إيرلندا لاعتبارات دستورية وتاريخية واستراتيجية، فيما ترى المؤسسة العسكرية البريطانية أن موطئ القدم في مقاطعات شمالي إيرلندا حيوي للدفاع عن المملكة المتحدة من جهة الغرب. ومع ذلك، فقد يلهم تولّي أونيل منصب الوزيرة الأولى، الإيرلنديين، ليدعموا وصول «شين فين»، الذي يتقدّم في استطلاعات الرأي على الأحزاب الأخرى، إلى السلطة في دبلن، عندما تُعقد الانتخابات العامة في وقت لاحق من هذا العام، أو في أوائل عام 2025، ما قد يسمح لدبلن وبلفاست بالتنسيق معاً والضغط على لندن عبر واشنطن وبروكسل من أجل إجراء الاستفتاء.
ولكن الأمر المؤكد أن سعي التيار البرجوازي الذي يسيطر على «شين فين» إلى الحصول على المقبولية في واشنطن، سيجعله دائماً تحت رحمة النوايا الأميركية. وعلى رغم دعوات المقاطعة احتجاجاً على دعم واشنطن لحرب الإبادة في غزة، أعلنت ميشيل أونيل وماري لو ماكدونالد أنهما ستزوران العاصمة الأميركية. ويتصوّر خبراء أن ثمّة احتمالاً لموافقة أميركية على توحيد إيرلندا حال احتفظ الديموقراطيون في البيت الأبيض في الانتخابات المقبلة، لكنّها ستتطلّب التزاماً لا رجعة فيه من «شين فين» بمبدأ عضوية إيرلندا في «حلف شمال الأطلسي»، ومضاعفة الإنفاق العسكري للجمهورية عدّة مرات للتوافق مع متطلبات «الناتو». وعندئذٍ فقط، قد تخضع لندن وتقبل على مضض إجراء الاستفتاء، مع بذل كل الجهود للخروج بنتيجة تضمن استمرار الأوضاع القائمة على ما هي عليه، لجيل قادم على الأقلّ.