مع حلول الذكرى الثانية للحرب في أوكرانيا، يمكن اختزال أبرز تطوّرات الجبهة على مدى عام، بمعركتَي باخموت وأفدييفكا، اللتين شكّلتا «علامة نصر» للروس، رغم تباين الأهمية العسكرية لكلتا المدينتَين، وتفاوُت تقييم أثر كل معركة منهما على مسار الحرب، فضلاً عمّا سجلته فصول مواجهات الجبهة الجنوبية، وتحديداً في بلدة روبوتين، التي تكاد تكون «نقطة الفتح» اليتيمة التي سجلها «الهجوم المضاد الأوكراني».
2023: انقلاب الصورة
بعدما شهد العام الأول سلسلة انسحابات للجيش الروسي من بعض المدن التي كان قد ظفر بها، مطلع الحرب، تحت مبررات «تكتيكية» - على غرار خيرسون -، انقلب المشهد بدءاً من العام الماضي، مع خسارة أوكرانيا لباخموت، لتكرّ بعدها، وللمبرّرات عينها، سبحة الخيبات العسكرية الأوكرانية، ومن أبرزها قرار القائد الجديد لقواتها المسلحة، الجنرال أولكسندر سيرسكي، الانسحاب من مدينة أفدييفكا، الواقعة على بعد 20 كيلومتراً شمالي دونيتسك، مركز المقاطعة الأوكرانية المنضمة إلى روسيا حديثاً، والتي تحمل الاسم نفسه. وعلى هذا، يؤسّس دخول الجيش الروسي إلى أفدييفكا، التي سبق أن ذاع صيتها كرمز لـ«المقاومة الأوكرانية»، منذ أن نشر الرئيس فولوديمير زيلينسكي صورة له عند مداخلها ومن خلفه تَظهر لافتة كُتب عليها: «أفدييفكا هي (ما سيحدّد مصير) أوكرانيا»، لمرحلة جديدة من الحرب.
وإذا كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عمل على توظيف انتصاره في باخموت لإعادة تصويب المسار الميداني للحرب، من طريق إجراء تغييرات في التكتيكات العسكرية، شملت تفادي الطلعات الجوية على ارتفاع منخفض، بهدف الحدّ من خطر التعرّض لنيران الدفاعات الجوية الأوكرانية، وتكثيف القوة النارية الجوية والمدفعية، إضافةً إلى الاستعانة بفرق مشاة هجومية صغيرة العدد، والتوسّع عبر بناء الأشراك الدفاعية والخنادق المضادة للدبابات، إلى جانب الشروع في «حرب أنفاق» عند بعض المحاور القتالية، فقد كرّس الرجل جهوداً موازية لمعالجة بعض أوجه الارتدادات السلبية لذلك الانتصار في الداخل، ومن جملتها خلافه مع قائد مجموعة «فاغنر»، يفغيني بريغوجين. وفضلاً عن الاعتبارات الميدانية، التي يسجّل فيها الجيش الروسي تفوّقاً عددياً شاملاً، ونوعياً على أكثر من صعيد، كالتفوّق الجوي والقوة النارية، استفاد بوتين من عوامل سياسية وإعلامية لا تقلّ أهمية لتظهير صورة دحر القوات الأوكرانية من أفدييفكا، يتعلّق أحدها بانشغال الرأي العام العالمي بمتابعة مجريات الحرب على غزة، وما يوفّره ذلك من صرف للأنظار عن «إستراتيجية الأرض المحروقة» التي يخوضها على عدّة جبهات في أوكرانيا، بينما يتّصل الآخر بتضاؤل حجم الدعم الغربي العسكري لكييف، ولا سيّما الأميركي، مع تراجع حرب أوكرانيا على قائمة أولويات الولايات المتحدة وحلفائها الدوليين لحساب تركيز اهتمامهم على دعم إسرائيل. أيضاً، لعبت عوامل أخرى في صالح بوتين، ومن جملتها تحسين أجور العسكريين وكفاءتهم، وإتمام خطة الجيش لتعبئة قرابة 300 ألف عنصر، إلى جانب تكييف القاعدة الصناعية الروسية مع «اقتصاد الحرب»، عقب تخصيص نحو 30% من موازنة العام الجاري لأغراض الدفاع، وهي سياسة تبرزها عدة مؤشرات، كارتفاع معدل إنتاج الدبابات بمقدار خمسة أضعاف لهذا العام، وسط تقديرات بإنتاج روسيا نحو 200 دبابة سنوياً.
عمل بوتين على توظيف انتصاره في باخموت لإعادة تصويب المسار الميداني للحرب في أوكرانيا


وتأسيساً على ما سبق، أشارت صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أنّ حسم الروس لِما وصفه بوتين نفسه بـ«النصر المهمّ» في أفدييفكا، وما تبعه من انسحاب غير منظّم للعناصر العسكرية الأوكرانية بصورة لم تَسمح لهم بإتلاف الوثائق العسكرية، أو إخلاء المصابين، وسحب الأسلحة الثقيلة، وذلك بعد إحكام تطويق المدينة من الشمال، والشرق، والجنوب في الأسابيع القليلة الماضية، أسهم في منح موسكو «أكبر انتصار لها» منذ أشهر، وتوجيه ضربة «استراتيجية» و«رمزية» قاسية لقوات كييف المنهكة، والمحبَطة بسبب النقص في الأسلحة والذخائر. ويمهّد ما تقدّم، لتحييد مدينة دونيتسك عن ضربات المدفعية الأوكرانية، إضافة إلى مواصلة توسيع هامش السيطرة الروسية، سواء غرباً في مقاطعة دونيتسك التي يعتبر إتمام السيطرة عليها أحد الأهداف الرئيسة للحرب، أو شمالاً في اتجاه مقاطعة خاركيف. مع هذا، نقلت الصحيفة عن مسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قولهم إنه لم يفت الأوان بعد أمام حلفاء أوكرانيا، لرفدها بالمعدات العسكرية التي تطلبها إذا أمكن إيصالها بالسرعة المطلوبة، وخصوصاً أن توريد قذائف المدفعية والذخائر الأخرى لكييف يمكن أن يحول دون مسارعة القوات الروسية للقيام بهجوم مماثل لما جرى في أفدييفكا، في جبهات أخرى.
ووسط تشكيك في قدرة الجيش الأوكراني على صدّ هجوم روسي واسع جديد، يوضح الباحث في «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، روب لي، أن نجاح روسيا في تجنيد عدد كبير من المتطوعين، في ظلّ مشكلات تواجه أوكرانيا على الصعيد ذاته، تشكل أحد أبرز العوامل الحاكمة للمشهد الميداني الأوكراني في عام 2023. بدوره، يلفت الخبير المتخصص في الشؤون الروسية في «معهد كارنيغي للسلام الدولي»، مايكل كوفمان، إلى سحب كييف قوات «اللواء 110» خلال معارك أفدييفكا واستبدالها بفرق من «لواء الهجوم الثالث»، وهو أحد ألوية النخبة، كجزء من تناوب القوات على القتال داخل المدينة لتعزيز دفاعاتها، معتبراً أن عملية التناوب تلك لم تكن ناجعة، وتشي بمدى جسامة «الاستنزاف المطرد» الذي لحق بالقوات الأوكرانية في معارك المدينة ذات المساحة المقدرة بنحو 20 كيلومتراً مربعاً.

مرحلة ما بعد أفيدييفكا: نصر خارجي وداخلي لبوتين
بالحديث عن تبعات معركة مدينة أفدييفكا، حيث تحتفظ روسيا بقوات يُقدَّر تعدادها بنحو 50 ألف عنصر، بالتزامن مع احتفاظها بعدد مشابه أو أكبر بقليل حول بلدة روبوتين، على الجبهة الجنوبية، التي باتت هدفاً رئيساً للكرملين، يوضح خبراء عسكريون أن السيطرة على أفدييفكا يمكن أن تمهّد لانتقال تركيز الجهد العسكري الروسي نحو مدن إستراتيجية أخرى واقعة على الطريق الدولي H20 مثل سلوفيانسك، وكراماتورسك، التي تبعد قرابة 50 كيلومتراً إلى الشمال الغربي. ذلك أن سقوط أفدييفكا، وقبلها بلدة مارينكا، يشكّل أحدث المؤشرات إلى استعادة القوات الروسية، المنتشرة على طول خطوط الجبهة، والبالغ تعدادها 617 ألف عنصر، زمام المبادرة عقب فشل الهجوم الأوكراني المضاد. وهنا، يرجّح خبراء عسكريون أن يستكمل الجيش الروسي طريقه على الجبهة الشمالية الشرقية عبر محور كوبيانسك، وهي عقدة لوجستية محورية بالنسبة إلى الجيش الأوكراني، تقع على مسافة 40 كيلومتراً من الحدود الروسية، أو غرباً نحو أحد أهمّ معاقل القوات الأوكرانية على تلك الجبهة، وتحديداً في بلدة بوكروفسك. أما على الجبهات الباقية، وتحديداً جبهة مارينكا، فمن المحتمل أن تكون بلدة نوفوميكالفكا، في اتجاه الجنوب الغربي، أو بلدة فوغلدار الواقعة جنوباً، هي الوجهة المحتملة المقبلة للروس، وخصوصاً أنهم حاولوا سابقاً الإطباق عليها من محاور أخرى. ومن المحاور المرشحة لتكون نقطة ارتكاز لهجوم واسع جديد، بلدة كريمينا، الواقعة على بُعد نحو 100 كيلومتر من كييف، ومن بعد مدينة كوبيانسك شمالاً، أو مدينة ليمان جنوباً.