وفي حال قبول المحكمة طلب الطعن في قرار باتيل، فإن ذلك سيفتح الباب أمام تقديم استئناف جديد يعيد فتح القضية برمّتها، في محاولة لانتزاع اعتراف صريح بأن مقاضاة أسانج مستمرّة بسبب نشاطه الصحافي وآرائه السياسية، لكن احتمال ردّ الطعن هو الأغلب. وفي هذا السيناريو الأخير، يكون أسانج قد استنفد عملياً كل الوسائل القانونية الممكنة للاعتراض على تسليمه، ما سيدفع فريق الدفاع عن مؤسس "ويكيليكس" إلى اللجوء إلى "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" سعياً للحصول على حكم ضدّ قرار القضاء البريطاني. لكن خبراء يقولون إن لندن لن تغامر بإغضاب الإدارة الأميركية، بل إنها ستسارع إلى تسليم أسانج قبل موعد انعقاد جلسة المحكمة الأوروبية (المتوقّع في وقت لاحق من آذار المقبل)، فضلاً عن أنها قد تتجاهل أيّ أحكام تصدر عنها.
ويقبع الصحافي والناشر البالغ 52 عاماً، في سجن مخصّص لعتاة المجرمين، يخضع لإجراءات أمنية مشدّدة، ومن دون توجيه أيّ تهم قانونية محدّدة إليه، وذلك في انتظار انتهاء إجراءات تسليمه إلى الولايات المتحدة. وكانت الأجهزة الأمنية البريطانية قد أسرت أسانج في عام 2019، إثر طرده من مقرّ لجوئه في السفارة الإكوادورية لدى بريطانيا، وعُرض حينئذٍ على محكمة ابتدائية قرّرت إطلاق سراحه بالإشارة إلى تدهور صحته العقلية نتيجة العزلة الطويلة وتقييم الأطباء بأنّه سيقدم على الانتحار في حال تسليمه. لكن سفارة الولايات المتحدة سرعان ما تقدّمت بطلب رسمي لدى الحكومة البريطانية لاسترداده من قِبَل القضاء الأميركي لمحاكمته بـ 17 تهمة تتمحور حول نشره أسراراً رسمية للدولة.
لن تغامر لندن بإغضاب الإدارة الأميركية في مسألة تسليم جوليان أسانج
وكان موقع "ويكيليكس"، الذي أسّسه أسانج عام 2006، قد تسبّب بضجة عالمية، بعدما نشر شريط فيديو لطاقم مروحية أميركية، وهو يقتل المدنيين عمداً - ومنهم صحافيون - خلال تحليق لطائرته (في عام 2007) فوق ميدان رئيسيّ في العاصمة العراقية المحتلّة، بغداد. لكن الموقع نشر اعتباراً من عام 2010 عشرات آلاف الوثائق العسكرية الأميركية المتعلّقة بالعدوان على كل من أفغانستان والعراق، إلى جانب برقيات وزارة الخارجية الأميركية التي قامت بتسريبها تشيلسي مانينغ، المجندة في الجيش الأميركي، وكشفت بما لا يدع مجالاً للشك عن أساليب العمل الإجرامية التي تمارسها النخبة الحاكمة في واشنطن، وأدوات التجسّس والتنصّت والقرصنة الإلكترونية الشاملة التي تمتلكها. وقد نشرت حينها صحف عالمية، من بينها "ذي غارديان" البريطانية، و"نيويورك تايمز" الأميركية، نماذج من تلك البرقيات، ما تسبّب بصدمة في واشنطن، وعواصم عديدة أخرى. وعمد الموقع لاحقاً إلى نشر وثائق أخرى فضحت سلوكيات الإدارة الديموقراطية، ولا سيما وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، ومشاركتها في هندسة الحرب على ليبيا لإسقاط نظام معمر القذافي، كما تمويل الدوحة والرياض لتنظيم "داعش".
ومنذ ذلك الحين، ظلّ أسانج مطارَداً من قِبَل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، فيما ناقش مسؤولون على أعلى المستويات في إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، أفكاراً لاختطافه وتصفيته جسدياً بإطلاق النار عليه بمعرفة الشرطة البريطانية. كذلك، لُفّقت له تهم ارتكاب اعتداءات جنسية في السويد أثناء زيارة قصيرة قام بها لاستوكهولم، ما اضطرّه إلى طلب اللجوء لدى المقرّ الديبلوماسي لحكومة الرئيس الإكوادوري اليساري، رافائيل كوريا، في لندن، حيث قضى عدّة سنوات محاصَراً، قبل أن يستعيد اليمينيون الموالون لواشنطن السلطة من اليسار هناك، ويقرّروا التخلّص من أسانج وإسقاط الجنسية الإكوادورية، التي كان قد منحه إيّاها الرئيس كوريا، عنه. وكان لافتاً أن تلك التهم التي أسقطت لاحقاً، ودفعت أسانج إلى اللجوء إلى حماية صديقه الرئيس الإكوادوري السابق، خدمت أغراض تشويه سمعته، ولا سيما في أوساط اليسار الأوروبي، فيما انقلبت عليه "غارديان"، وسرّبت للأميركيين رموزاً سرّية سلّمها إيّاها "ويكيليكس"، واعتبرها القضاء الأميركي دليل إدانة دامغاً ضدّ ناشر الموقع.
وتسقط مطاردة أسانج التي استمرّت لِما يقرب من 15 عاماً، أوراق توت كثيرة عن أوهام طالما صدّقها كثيرون حول العالم، بما فيها وجود صحافة حرّة في الغرب، وادعاءات الأنظمة الحاكمة هناك بحماية الديموقراطية وحقوق الإنسان، ومزاعم دولها بفصل السلطات الثلاث بما يضمن استقلال القضاء، ومهزلة القانون الدولي، فضلاً عن التقصير الذريع للحكومة الأسترالية في تقديم الحماية القانونية والديبلوماسية التي يستحقّها مواطنها، الموجّهة ضدّه اتهامات وفق مواد "قانون التجسّس" الأميركي لعام 1917، من دون أن يكون مواطناً أميركيّاً، أو يشارك بنفسه في التجسّس على الأميركيين، كما أنه حتماً لم يكن مقيماً في الولايات المتحدة لدى تسلُّمه الوثائق السرّية، بل إن دوره اقتصر على نشرها.