لا تجهد روسيا كثيراً في صياغة ردّها "غير التقليدي" في وجه الغرب، عند كل مرّة تستشعر فيها ازدياد حدّة الحملة ضدّها على الجبهة الأوكرانية. فالغرب، الذي يجد نفسه معنيّاً بترميم إخفاقات كييف، انساق أخيراً، على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى مواقف تصعيدية غير مسبوقة، قال فيها الأخير إنه لا ينبغي "استبعاد" إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا في المستقبل، متعهّداً بـ"منع روسيا من الانتصار" في حربها، وذلك في موازاة اندفاع أوكرانيا إلى تغطية تلك الإخفاقات عبر "تسخين" الحدود الروسية، من خلال هجمات نسبت إلى مقاتلين روس، معارضين لحكومتهم. وعلى رغم أن الرئيس الفرنسي أكد عدم وجود إجماع داخل "حلف شمال الأطلسي" حول ما طرحه خلال قمّة باريس، وإنْ لاقى تأييداً من بعض الدول، وفي طليعتها بولندا، التي أبدت ترحيبها بالمقترح الفرنسي، داعيةً إلى "تصعيد مدروس بشكل خلّاق، وغير متناظر"، فقد جاء ردّ موسكو سريعاً، من أعلى هرم السلطة، عبر التلويح بالسلاح النووي. "نبرة التحذير الذرية" هذه، نقلها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حين أشار قبل أيام إلى أن قواته "في حالة جهوزية، من الناحية العسكرية والفنية لخوض حرب نووية"، في حال تعلّق الأمر بـ"تهديد الدولة الروسية، أو ضرب استقلالنا وسيادتنا"، وفقاً لما هو منصوص عليه في العقيدة النووية الروسية. وفي إشارة إلى استبعاده سيناريو مواجهة نووية وشيكة بين موسكو والغرب، قال بوتين، في مقابلة مع "القناة الأولى" ووكالة "ريا نوفوستي" للأنباء الرسميتَين، إنه "في الولايات المتحدة يوجد ما يكفي من المتخصصين في مجال العلاقات الروسية - الأميركية وفي مجال ضبط النفس الاستراتيجي"، مستدركاً بأن "الأسلحة (النووية) موجودة من أجل استخدامها". ولم يحصر الرئيس الروسي تحذيره بدولة غربية معينة، موضحاً أن بلاده ستتعامل مع أيّ قوات أميركية متمركزة في أوكرانيا على أنها "قوات دخيلة"، متوّعداً بوأد أيّ تحرّك عسكري بولندي داخل الأراضي الأوكرانية.

"خطاب حالة الأمة": نقطة تحوّل نووية؟
حمل التهديد غير المسبوق من جانب بوتين، أصداء إنذار مشابه كان قد وجّهه الرئيس الروسي إلى خصومه الغربيين، خلال خطاب "حالة الأمة"، أواخر شباط الماضي، وأعلن فيه استعداد قواته للدفاع عن "وحدة أراضيها"، محذّراً من أن موسكو "لن تسمح لأيّ جهة كانت بالتدخّل في شؤونها الداخلية"، و"سوف تردّ في حال استفزازها"، في إشارة إلى دعم الغرب العسكري لحكومة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، من أجل ما يسمّيه "تحرير" أراضٍ أوكرانية سبق أن انضمّت إلى الاتحاد الروسي، كشبه جزيرة القرم، و"جمهوريتَي" لوغانسك ودونيتسك، ومواصلته الهجمات في اتّجاه الداخل الروسي. وتابع موجّهاً كلامه إلى حلفاء كييف: "على الغرب أن يفهم في نهاية المطاف أن بحوزتنا أسلحة أيضاً، على غرار تلك الأسلحة التي يرعبون بها العالم... وهي أسلحة قادرة على ضرب أهداف (متنوعة) على أراضيهم".
هناك فجوة بين واشنطن من جهة، وبعض حلفائها الأوروبيين من جهة أخرى، حول كيفية تقييم "عتبة الخيار النووي" الروسي


ما عبّر عنه "سيد الكرملين"، ولا سيما لناحية تحذيره واشنطن وحلفائها الغربيين من مغبّة جرّ العالم إلى "حرب نووية مدمّرة للحضارة الإنسانية"، يتقاطع مع إشارات تحذيرية سابقة بالمضمون نفسه، لوزير الدفاع، سيرغي شويغو، إضافة إلى تهديد نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، أخيراً، بأن روسيا لم يَعُد لديها "خطوط حمر" في تعاملها مع فرنسا. وعكست وسائل الإعلام الروسية، من جهتها، مناخات التصعيد الكلامي الرسمي على "الجبهة النووية"، عبر حديث إعلاميين وسياسيين روس عن نذر حرب عالمية ثالثة، في إذا اضطرّت موسكو إلى استهداف أحد بلدان "الناتو"، على خلفية ما يجري في أوكرانيا.

وثائق عسكرية روسية: حرب نووية وشيكة؟
على وقع مبادرة كل من موسكو وخصومها في "منظومة الناتو" إلى تسريع وتيرة تطوير ترساناتهم من الأسلحة النووية، فإن ما استوقف المتابعين هو أن إشهار بوتين، يوم الثلاثاء الفائت، لـ"السلاح النووي"، في مقابلته التلفزيونية الأخيرة، يأتي بعد أسابيع قليلة من كشف صحيفة "فايننشال تايمز" عن وثائق عسكرية روسية مزعومة تضمّنت خططاً لِما وصفته بـ"حرب نووية يعدّ لها الكرملين". وأشارت الوثائق العسكرية، المنشورة في الصحيفة البريطانية، والتي تعود إلى فترة ما بين عامَي 2008 و2014، إلى ظروف معينة، حدّدتها القيادة العسكرية والسياسية في روسيا للشروع في شنّ ضربات نووية ضدّ الخصوم، مبيّنة أن "الجنرالات الروس وضعوا في الحسبان إمكانية اللجوء إلى السلاح النووي، في حالة خسارة الجيش (في أيّ مواجهة عسكرية مفترضة) لما يوازي 20% من قوته الصاروخية الباليستية الاستراتيجية، وعلى وجه التحديد تلك التي تطلق من البحر، أو ما نسبته 30% من أسطول الغواصات الهجومية، وكذلك في الحالات التي تتعرّض فيها ثلاث قواعد عسكرية جوية للتدمير". كما تضمّنت الوثائق الروسية المسرّبة "تفاصيل عن برامج المناورات والتدريبات العسكرية، على صعيد التخطيط العسكري الاستراتيجي، التي يجريها الجيش الروسي بصورة دورية، ويصار إلى رفع تقارير في شأنها إلى قادة سلاح البحرية".
وفي هذا السياق، تشير مجلة "فورين بوليسي" إلى أن الحرب الدائرة في أوكرانيا، ونشر موسكو أسلحة نووية في أراضي بيلاروسيا، كأول حدث من نوعه منذ أيام الحرب الباردة، رفعا من احتمالات وقوع "حرب نووية"، مؤكدة وجود فجوة بين واشنطن وبعض حلفائها الأوروبيين حول كيفية تقييم "عتبة الخيار النووي" الروسي على هذا الصعيد، والخيارات المتاحة للتعامل معه والردّ عليه، علماً أن الهاجس الأميركي حيال القدرات "غير التقليدية" المتوفّرة لدى موسكو، كان له دور في تحديد نوعية وكمية الدعم العسكري المقدَّم إلى كييف. وتشير المجلة الأميركية إلى أن أعضاء حلف "الناتو" منقسمون بين مَن يدعون إلى ضرورة الاتعاظ بتجربة الحرب في أوكرانيا والتعامل بجدّية مع التهديد الروسي، مرجحين احتمال شنّ روسيا "ضربة نووية تكتيكية" ضدّ أوكرانيا، وذلك سواء استشعرت احتمال تعرّضها للهزيمة، أو إذا لمست وجود إمكانات عسكرية كافية لدى كييف لاستعادة مناطقها التي كانت قد أعلنت انضمامها إلى الاتحاد الروسي؛ وبين مَن يصرّون على توصيف التلويح الروسي المتكرّر بـ"الخيار النووي"، بـ"الابتزاز النووي" لا أكثر.
وفي محاولته استشراف ردود الفعل المحتملة من قِبَل "الناتو" في وجه موسكو، توقّف الباحث المتخصّص في قضايا نزع التسلّح والانتشار النووي، في "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية"، ويليام ألبيرك، عند مبادرة الحلف العسكري الغربي خلال الأعوام التي تلت سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، وتحديداً عام 2019، إلى إطلاق مبادرة لتنظيم مناورات عسكرية نووية سنوية مشتركة بين عدد من بلدان الحلف بعنوان "Stead Fast Noon"، مستبعداً أن يعمد الحلف إلى إطلاق مناورات نووية مشابهة على نطاق أوسع، سواء من حيث عدد البلدان المشاركة، أو لناحية دمج التكتيكات العسكرية التقليدية وغير التقليدية فيها بوصفها "أمراً محرّماً" في الوقت الراهن. بدورها، أوضحت كبيرة المبعوثين الأميركيين لشؤون نزع التسلّح، بوني جينكينز، أن الحلف يأخذ التصعيد النووي الروسي على محمل الجدّ، مضيفة أنه "في حقيقة الأمر، لا نعرف الطريقة التي يفكّر فيها بوتين، وما ينوي القيام به في الفترة المقبلة".