من هنا، فإن زيارة غروسي لإيران لم تأتِ بجديد، بل تمخّضت عن مجرّد التوافق على تنفيذ الاتفاق السابق. لكن يبدو أنها ساهمت في تفادي تصعيد الخلافات، ولا سيما في الاجتماع المقبل لمجلس المحافظين الذي سيلتئم بعد نحو شهر من الآن. وكان المدير العام لـ"الوكالة الدولية" تحدّث قبل شهرين، أمام مجلس المحافظين في فيينا، عن "استفحال" المشاكل في ما يخصّ المشاريع النووية الإيرانية، وشدّد، في حينه، على ضرورة البتّ فيها بشكل جادّ. كما حذّر، قبل بضعة أيام، من أن طهران تمتلك ما يكفي من اليورانيوم المخصّب الذي يقرّبها من عتبة التسلّح، وصنع "عدّة" قنابل نووية، في ما لو رغبت في ذلك. وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات بين إيران والوكالة اتّسمت مراراً بالتوتّر والتصعيد منذ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، فيما باءت بالفشل محاولات الاتحاد الأوروبي للوساطة لإعادة واشنطن إلى الاتفاق ودفع طهران إلى معاودة تنفيذه. وفي هذا الوقت، انتهجت إيران سياسة مزدوجة تجاه الوكالة؛ فمن ناحية، حافظت على مستوى من التواصل والتعاون معها بهدف تفادي تصاعد الخلافات، وبالتالي إحالة الملف الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي؛ ومن ناحية أخرى، سعت من خلال تطوير برنامجها النووي، إلى الاحتفاظ بالورقة الرابحة في محادثاتها السياسية مع القوى الكبرى لوضع نهاية للعقوبات المفروضة عليها.
الوكالة منزعجة من عدم إصدار إيران تأشيرات دخول لمفتشيها، وبالتالي إرباكها عملية التفتيش
وقد اتفقت إيران والوكالة، في آذار 2023، على خريطة طريق، يتمّ بموجبها تسوية القضايا الخلافية خطوة بخطوة، علماً أن هذا الاتفاق لم يوضع موضع التطبيق بالكامل، وما زالت بعض الخلافات حوله قائمة، وهي تدور حول شقين: هما "اتفاقات الضمانات" و"ما بعد اتفاقات الضمانات". ففي الأول، كان مقرّراً أن تعطي إيران أجوبة فنية معتمدة في شأن الغموض حول عثور الوكالة على يورانيوم طبيعي في 4 مراكز نووية غير معلنة، وكذلك اكتشاف يورانيوم مخصّب بنسبة 84%، لكن لم يتم إغلاق سوى ملفّي مركزَين اثنين، فيما ملفا المركزين الآخرين ما زالا مفتوحين. ومن جهة أخرى، فإن الوكالة منزعجة من عدم إصدار إيران تأشيرات دخول لمفتشيها، وبالتالي إرباكها عملية التفتيش، في ما يمثّل، بالنسبة إلى الأولى، عائقاً أمام مسار الإشراف المستمرّ على الأنشطة النووية الإيرانية.
كذلك، كان مقرّراً أن تُعيد إيران تركيب كاميرات المراقبة في "ما بعد اتفاقات الضمانات"، غير أن هذا الجزء من الاتفاق النووي لم يوضع موضع التنفيذ منذ ذلك الحين. ويرى الكثير من المراقبين، أن طابع الملفّ النووي الإيراني سياسي أكثر منه فنياً، وبالتالي، فإن الجمهورية الإسلامية لا تبدي حرصاً على الوفاء بالتزاماتها فيه بما في ذلك تكثيف عمليات المراقبة التي تقوم بها الوكالة، قبل أن ينفذ الطرف الآخر (أميركا) التزاماته، ويرفع العقوبات عن إيران. ولا تزال المحادثات بين إيران والدول المتبقية في الاتفاق، والرامية إلى إحيائه، متوقّفة منذ فترة طويلة، فيما لا تلوح في الأفق إشارات إلى استئنافها. وقد دفعت تطوّرات الأشهر الأخيرة في المنطقة، والتي أعقبت هجمات السابع من أكتوبر، الملف النووي الإيراني إلى الهامش. وفي هذا الخضمّ، تتخوّف الدول الغربية من أن تقترب إيران يوماً بعد آخر من خلال توسيع وتطوير برنامجها النووي، من مرحلة القدرة على تصنيع السلاح النووي.