بصورة مفاجئة، نشطت الدبلوماسية الغربية بحثاً عن الحل في اليمن. بدت الأمور، في الأيام القليلة الماضية، وكأن الأميركيين في سباق مع الزمن لإحداث كوّة في جدار الملف اليمني، مستعجلين إحياء مسار المفاوضات المعلقة، نظراً إلى حجم تسخين الخطوط واللقاءات التي يجريها البريطانيون والأميركيون في الرياض، والتحركات الموازية من جانب المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد.
خلفية التطورات الجارية، وفق حديث مصادر يتقاطع مع جملة مؤشرات وتسريبات، عنصر رئيسي: السعوديون يبحثون جدياً منذ أشهر عن الخروج من اليمن. تقول المصادر إن ولي العهد محمد بن سلمان أوفد إلى طهران أكثر من وسيط لإبلاغ الإيرانيين باستعداده للتعاون من أجل إيقاف الحرب. وبالفعل قدّم أحد الوسطاء أفكاراً عدة في هذا السبيل، إلا أن المطلب السعودي على الدوام قوبل بالتجاهل والدعوة إلى تفاوض سعودي مباشر مع صنعاء، لكون المسألة «شأناً يمنياً». مع أن أصحاب قرار الحرب في الرياض توصلوا إلى قناعة راسخة بتعثر الأدوات العسكرية في اليمن، وضرورة توقيف عدّاد الاستنزاف هناك، بل تخطوا ذلك منذ مدة إلى الاستعداد للتفاوض مع طهران بهذا الشأن، إلا أن ثمة إصراراً على رفض الخروج بأي ثمن وبلا مخرج مشرف يحفظ لمشعلي الحرب ماء وجههم، ويضمن مشهدية انتصار، لا شكلي فحسب، بل بمكاسب لم تقدر على تحقيقها الرياض عبر الميدان.

يحاول شريم منذ تعيينه
التواصل مع «أنصار الله» إلا أنه يجابه بعدم التجاوب


وعلى الرغم من هذا التناقض بين قناعة السعودية بضرورة الحل، وتعنتها في رفض الحلول «الواقعية» تجنباً للاعتراف المباشر بالفشل والضعف، أوعزت الرياض إلى المبعوث الدولي في اليمن بزيارة طهران منتصف آب الماضي، في محاولة أخيرة لإقناع الإيرانيين بـ«المساعدة». وقد شكلت الزيارة وقتها علامة فارقة في الاعتراف العلني بإمكانية لعب إيران دوراً في الملف اليمني، ولو أن الحرب خيضت تحت شعار «استنقاذ» اليمن من إيران.
في صنعاء، تتشبث حركة «أنصار الله» برفض أي مقترحات يتقدم بها ولد الشيخ بصيغة تبدو سعودية، أو أنها تصبّ في مصلحة الرياض و«تفرّط» بمصالح ومكتسبات تحالفها المجابه للحرب السعودية الإماراتية. وتستفيد الحركة في قرارها من شروط الميدان الصعبة التي رسختها، في انتظار أن تجبر الطرف الآخر على التسليم بحل «منطقي وواقعي» يتعامل مع الأطراف بندية غير منتقصة. وهو ما جعل العلاقة بين «أنصار الله» والأمم المتحدة على درجة عالية من التوتر، وصلت حد القطيعة مع ولد الشيخ وطلب استبداله. حتى الآن لا تقبل حكومة صنعاء بإعطاء المبعوث الدولي تأشيرة دخول إلى العاصمة اليمنية، رغم طلبه المتكرر. وقد حاولت الأمم المتحدة احتواء الأزمة عبر تعيين نائب لولد الشيخ، هو الفلسطيني معين شريم، الذي كان يشغل منصب رئيس القسم السياسي للبعثة الأممية في ليبيا برئاسة غسان سلامة. يحاول شريم منذ تعيينه التواصل مع «أنصار الله»، إلا أنه هو الآخر يجابه بعدم التجاوب من قبل الحركة إلى اليوم، والتي لا تنظر بإيجابية إلى تعيينه وتطرح علامات استفهام حول خلفياته وما يحكى عن علاقة تجمعه بإسرائيل، فضلاً عن سجل عمله في ليبيا حيث تكررت شكوى بعض الأطراف الليبية من «سوء إدارته».
بالعودة إلى التحرك الغربي، برزت أمس تصريحات للسفير الأميركي إلى اليمن ماثيو تولر، أكد فيها مساعي واشنطن واهتمامها بتحريك الجمود الحاصل في ملف المفاوضات، بالعمل «مع شركائها في المنطقة ودول أخرى مهتمة بهذا البلد بالغ الأهمية»، محدداً أسساً ثلاثة للحل في اليمن تقوم على: «وقف القتال، وعدم عرقلة إيصال المساعدات الإنسانية العاجلة، ومرحلة انتقالية تمثل كل اليمنيين».
التصريحات هذه، على عموميتها، تفيد بتأكيد ما يتسرب عن تعديل على خطة ولد الشيخ، شمل التخفيف من الشروط الموضوعة لمصلحة السعودية، علماً بأن الأخير لمّح في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن إلى وجود مقترحات جديدة دون الخوض في تفاصيلها. تنقل مصادر إعلامية يمنية حديثاً للسفير تولر في الرياض، قبل أيام، إلى أحد المسؤولين في حكومة الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي، أفصح فيه بوضوح عن اقتناع واشنطن بضرورة العودة إلى أجواء مفاوضات الكويت، وهو ما يعني التخلي عن شروط ولد الشيخ لناحية تسليم ميناء الحديدة لـ«طرف محايد» والإشراف الدولي، والعودة إلى بحث المرحلة الانتقالية وتفاصيل الترتيبات الأمنية. وهي تفاصيل لن تكون سهلة حين يصل النقاش إلى بنود من قبيل دور «أنصار الله» في الشراكة الجديدة ومصير القوة الصاروخية والترتيبات الأمنية للحدود بين اليمن والسعودية، والترتيبات على طول الخط الساحلي، إضافة إلى ملف «الطرف الثالث» الذي يسوّق له ولد الشيخ للعب دور «وسطي» في المرحلة الانتقالية، والذي هو مجموعة من الضباط تتهمهم «أنصار الله» بأنهم «صناعة أميركية» يراد تقديمهم تحت ذريعة الوساطة والحياد، فيما هم يتلقون التدريب الأميركي في إحدى الدول العربية في المنطقة.
إلى حينه، لا إمكانية للحديث عن دخول هذه المساعي مرحلة متقدمة، مع بقاء اللقاءات محصورة مع طرفي الرياض وفريق هادي ونائبه علي محسن الأحمر ووزير الخارجية عبد الملك المخلافي، والذين يتردد أنهم يسمعون حديثاً أميركياً هذه الأيام حول ضرورة التخفيف من التصعيد، والاستعداد لمرحلة انتقالية تقدم فيها التنازلات الكبيرة. يأمل الطرفان الأميركي والسعودي اقتناع «أنصار الله» بالتجاوب مع الشروط الجديدة، إلا أنه حتى حينه لا دعوات رسمية وجهت، ولم يُحدَّد بعد مكان المفاوضات الجديدة وموعدها. وتضع مصادر «أنصار الله» ما يجري في إطار «الاتصالات» التي لم ترقَ إلى «طرح جدي»، لكن ما بات شبه مؤكد أنها لن تكون في العاصمة العمانية مسقط، بناءً على اشتراط السعوديين.
وما قد يؤخر النقاش في الشق السياسي أن الطرح الجديد سيحاول البحث ابتداءً في مقترحات بشأن الملف الإنساني ووقف إطلاق النار، وفق الترتيب الذي أشار إليه السفير الأميركي.
وعلمت «الأخبار» أن اجتماعاً موسعاً لعدد من سفراء الدول العربية والغربية (الدول الـ18 الراعية لمشاورات السلام) عقد أمس في مقر السفارة اليمنية في الرياض، بحث المساعي الجديدة. يجري ذلك في ظل قلق يساور فريق هادي جراء تقاطع الأفكار الأميركية مع تقرير نشرته «مجموعة الأزمات الدولية»، قبل أيام، ينصح بالتخلي عن قرارات مجلس الأمن السابقة لعدم صلاحيتها للمرحلة المقبلة، ما يؤكد جدية الأميركيين في مقترح إزاحة هادي عن المشهد.
تحركات السفير الأميركي في اليمن، بموازاة تحرك ولد الشيخ ومساعد وزير الخارجية الأميركي بالإنابة ديفيد ساترفيلد، ووزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا آليستر بيرت، تفتح الباب على تساؤلات حذرة بشأن توقيت الاهتمام الأميركي بالملف اليمني، ومصلحة واشنطن الخاصة في تكثيف جهودها لإيجاد حل في هذه المرحلة، وإذا ما كانت هذه المصلحة تقتصر على «إنقاذ» الحليف السعودي.