كان فشل الاضطرابات في إيران بمثابة تأكيد أخير للسعوديين بأنهم لن يستطيعوا إسقاط الجمهورية الإسلامية
إدراك الرياض أهمّية الإعلام، واستخدامه، ليس بحاجة إلى شواهد؛ فهي كانت الدولة الأولى التي أنشأت جرائد ذات طابع عربي، في حين تستحوذ شبكة «أم بي سي» على النسبة الأعلى من المشاهدة العربية، وبالتالي ممارسة التأثير الأكبر في عملية «كيّ الوعي»، فضلاً عن نجاحها التجاري الذي يضمن لها مردوداً مادياً. لقد تعلّمت الرياض كيف تقرأ أمزجة الشعوب جيداً، وكيف تستخدم المال لاختراقها. ولذلك، فإن الناس يعرفون الأدوار السيّئة التي قام بها النظام السعودي على مدى عشرات السنين في المنطقة والعالم، ولكن عملية «كيّ الوعي» تُنسيهم إيّاها. ففي العراق على سبيل المثال، حيث سُجّل للرياض دور تخريبي كبير حين كان الانتحاريون يتدفّقون من المملكة بالآلاف إلى هذا البلد قبل بضع سنوات فقط، سرعان ما نسي الناس ذلك الدور، ولا سيما في أوساط الشيعة الذين كانوا الأكثر تضرّراً منه، وصاروا يَنشدون حلولاً لمشكلاتهم الاقتصادية من المملكة بالذات. ومردّ الواقع المُشار إليه، أن السعوديين اشتغلوا على جوانب كثيرة، من بينها، مثلاً، شغف العراقيين بالرياضة، مُعلِنين، قبل سنوات، إنشاء «مدينة الملك سلمان الرياضية» في العراق بكلفة 450 مليون دولار ضمن حزمة مساعدات قيمتها مليار دولار، ومساعدين أيضاً في دعم استضافة العراق لكأس الخليج العام الجاري. ويُضاف إلى ما تَقدّم، نجاح قناة «أم بي سي العراق» في تلبّس خطاب غير طائفي وغير حزبي، لتتفوّق على كلّ القنوات المحلية التي أخفقت في مغادرة خانة الفئوية، وتتمكّن من الوصول إلى كلّ العراقيين. وحتى بعض فصائل «الحشد الشعبي» التي تتعاطى الاقتصاد إلى جانب مهامها العسكرية والأمنية، صارت تُحاذر إزعاج الرياض في محاولة لنيل حصّة من الاستثمارات السعودية الآتية في حال استمرار الانفراجات الحاصلة في المنطقة، فيما أصيب بعض المعارضين السعوديين ممّن كانوا يتردّدون على العراق، بخيبة أمل، نتيجة تعجّل بعض الفصائل الاندفاع نحو المصالحة مع المملكة من دون قيد أو شرط.
«القوة الناعمة» في الأساس استثمار تتعاطاه السعودية لاستخدامه في أوقات الأزمات والتحوّلات، أو لمنع تلك الأزمات والتحوّلات من التأثير عليها، وهو الوضع الذي آلت إليه بعد سلسلة الإخفاقات السياسية والعسكرية في اليمن وسوريا وقطر وتركيا والأردن وغيرها، ما حتّم على قيادتها الحالية، وفي المرحلة الانتقالية التي تعيشها، العودة إلى مثل هذه الحلول. فالمملكة، فضلاً عن عملية انتقال القيادة التي تجري فيها، تعْبُر في الوقت نفسه عملية تحوّل كبرى حصلت قبل ذلك مرّتين في تاريخها، كانت أولاهما خلال الحرب العالمية الأولى، أيام الدولة السعودية الثانية، حين وقّعت إمارة نجد اتفاقية حماية مع بريطانيا ونالت بموجبها مساعدات مالية بريطانية مقابل ضمان أمن الخليج ومواصلاته، بما أزعج آنذاك الكثير من مشيخات الخليج ممّن جاءت الاتفاقية المذكورة على حساب أدوارهم؛ والثانية عام 1945 بتوقيع اتفاقية «النفط مقابل الحماية» مع أميركا. أمّا فترة التحوّل الحالية، فتتّسم بالضياع لكون المملكة لم تحصل بعد على ضمانات لأمن النظام ومستقبله، وهو ما تحاول القيام به من خلال تنويع العلاقات والاستفادة من الفرص المتاحة، والأهمّ من خلال الاتفاق مع الدولة التي كانت تعتبرها الخصم الأساسي، أي إيران. على أن هذا التوجّه لم يكن وليد اللحظة أو نتيجة قرار مفاجئ كما قد يظنّ كثيرون، بل إن القناعة لدى ابن سلمان بعدم إمكانية هزيمة إيران تولّدت منذ مدّة، الأمر الذي اتّضح في مقابلته التلفزيونية الأخيرة في آذار 2022، حينما قال إن «إيران جارتنا إلى الأبد ولن نستطيع التخلّص من بعضنا»، بعدما كان افتتح عهده بمقابلة أولى في آذار 2017، قال فيها إن «إيران منطقها أن المهدي المنتظر سوف يأتي ويجب أن يحضّروا البيئة الخصبة، فكيف تتفاهم مع هؤلاء؟»