تخوض تركيا، منذ نحو عامَين، عملية أمنية معقّدة لضبط الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل مختلفة، بما فيها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، بهدف تقليل أيّ مخاطر مستقبلية للحريق المندلع منذ أكثر من عقد على الطرف الآخر من حدودها الجنوبية. وتسعى أنقرة، في هذا السياق، إلى منع انتقال وتسرّب «الجهاديين»، الذين سهّلت مرورهم طيلة سنوات الحرب السورية، إلى أراضيها، أو حتى شنّهم هجمات انتقامية نتيجة تغييرها بعض مواقفها وانتقالها التدريجي من حالة العداء مع دمشق، إلى حالة تعاون يتمّ العمل عليها بوساطة روسية - إيرانية، تَدخل هذه الأيّام مرحلة حاسمة مع اقتراب تقديمها مسوّدة خريطة طريق خلال لقاء مرتقب على مستوى نوّاب ووزراء الخارجية في موسكو. وعَقد ضبّاط أتراك، قبل أيام، لقاءً دورياً مع عدد من متزعّمي الفصائل المنتشرة في ريف حلب، وذلك لمناسبة فوز الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بولاية رئاسية جديدة. وفي خلال اللقاء، أَبلغ الأتراك، قادة الفصائل، بضرورة تكثيف نشاطهم الأمني لمنع أيّ اضطرابات جديدة قد يشهدها ريف حلب الشمالي خلال الفترة المقبلة، والحيلولة دون تكرار تظاهرات سابقة شهدتها المنطقة على خلفية تبدّل موقف أنقرة وبحثها عن تعاون مع دمشق. ويكشف مصدر مطّلع على مجريات الاجتماع، لـ«الأخبار»، أن قادة الفصائل حضروا إلى اللقاء بحثاً عن موقف تركي حازم تجاه تحرّكات «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) والتي باتت تهدّد ريف حلب الشمالي كاملاً، ولا سيما بعد استضافة زعيم «الهيئة»، «أبو محمد الجولاني»، عدداً من وجهاء ومتزعّمي بعض الجماعات ضمن مؤتمر حمل اسم «أهالي حلب»، وتمّ خلاله تكريم زعيم فرع تنظيم «القاعدة» السابق في سوريا، الذي أطلق، بدوره، بالمناسبة، تصريحات تفتح الباب أمام جماعته لالتهام ما تبقّى من ريف حلب بذريعة «التوحّد لفتح معركة استعادة حلب»، والتي يشهرها «الجولاني» للتمهيد لقضم مناطق جديدة تسيطر عليها المعارضة. إلّا أن الجانب التركي لم يبدِ، كعادته، أيّ موقف حازم، حيال تلك الممارسات، بحسب المصدر نفسه، الذي يوضح أن الأتراك انصبّ اهتمامهم على الجانب الأمني وتهدئة الشارع، بالإضافة إلى طلبهم تقديم لوائح بأسماء الموجودين في سجون الفصائل، ومنع إطلاق سراح أيّ موقوف من دون الرجوع إلى تركيا، ومتابعة ملفّ شبكات التهريب النشطة بين البلدَين، والحدّ ما أمكن من نشاطها، استكمالاً لإجراء بُدئ به قُبيل الانتخابات الرئاسية التركية، بذريعة منع التشويش على الانتخابات.
وإذ تتزامن الإجراءات التركية الجديدة في ريف حلب الشمالي، ومن بينها تكثيف الحملات الأمنية ضدّ بعض الشخصيات السورية المرتبطة بميدان القتال، مع محاولة رسم خريطة طريق للتقارب مع دمشق، فهي تكشف قلقاً متزايداً لدى تركيا من احتمال تعرّضها لعمليات انتقامية، سواءً عبر انتقال بعض الجماعات إلى أراضيها وتنفيذها هذه العمليات، أو عن طريق الاستعانة بسوريين يعيشون داخل الأراضي التركية وتربطهم بالجماعات المنتشرة في ريف حلب علاقات قوية. وفي ظلّ هذا الواقع، يبدو أن أنقرة باتت تواجه خطراً مضاعَفاً: الأوّل يتعلّق بالجماعات التي ساهمت هي في تنميتها طيلة سنوات الحرب في سوريا؛ والثاني يرتبط بالأكراد الذين عاد الجيش التركي إلى تنشيط استهدافهم عبر طائرات مسيّرة، ضمن التكتيك الذي باتت تعتمده تركيا في مواجهة «قسد» نتيجة تعثّر حصولها على موافقة على شنّ عملية عسكرية برّية على بعض المناطق، وأبرزها منبج التي تُعتبر عاصمة «قسد» الاقتصادية وبوّابة النفط السوري المسروق إلى الشمال.
تخشى تركيا الموقف الأميركي الساعي إلى عرقلة خطوات التطبيع بينها وبين الحكومة السورية


وبالإضافة إلى المخاوف الأمنية المتعلّقة ببعض الفصائل «غير المنضبطة»، تخشى تركيا الموقف الأميركي الساعي إلى عرقلة خطوات التطبيع بينها وبين الحكومة السورية، وخصوصاً عبر محاولة إقناع الفصائل بالانفتاح على «قسد» وإنشاء كيان معارض موحّد وقوي. وتمثّل تلك المحاولات طرحاً أميركياً قديماً ومستمرّاً، قدّمت واشنطن لأجل تنفيذه وإنجاحه مغريات عديدة بينها استثناء بعض المناطق في ريف حلب الشمالي، ومناطق سيطرة «قسد» في الشمال الشرقي من سوريا، من قانون العقوبات الأميركي (قيصر)، بالإضافة إلى إرسال مستثمرين أميركيين من أصول سورية إلى معاقل الفصائل في ريف حلب لتقديم عروض استثمارية مشروطة بظروف أمنية محدّدة، يتطلّب تنفيذها الانفتاح على «قسد».
وفي مواجهة ذلك الطرح، اشتغلت تركيا على منح عدد من متزعّمي الفصائل، وعدد من الشخصيات النافذة في المجتمع والموثوقة، الجنسية التركية، وربط مصالحهم مباشرة بها، موفّرةً لهم أيضاً أدوات لضبط المجتمع، برزت فعاليتها خلال قمع بعض التظاهرات التي شهدها ريف حلب ضدّ تركيا نهاية العام الماضي ومطلع العام الحالي، وتخلّلتها هجمات على مراكز حكومية تركية، قبل أن تنتهي بالقبض على عدد من الشخصيات التي تقف وراءها عبر عملية أمنية نفّذتها الفصائل على الأرض، بإشراف تركي.
وعلى رغم الانصياع التامّ الذي تبديه الفصائل لأنقرة، لا تخفي الأخيرة تخوّفها من انقلاب بعض المواقف مع اختلاف الظروف، وظهور مصالح اقتصادية تربط هذه الفصائل بمشاريع لا تريدها هي. وتُضاف إلى ما تَقدّم، الخلافات المستمرّة في ما بين الجماعات، والتي تخلق بيئة مناسبة لنموّ الفوضى التي تخشى تركيا تسرّبها إلى أراضيها، وهو ما قد يفسّر موقفها الملتبس حيال «هيئة تحرير الشام» التي تفرض سيطرة شبه تامّة على مواقع سيطرتها في إدلب وبعض مناطق ريف حلب، وتمنع بالتالي تسرّب «الإرهاب» إلى الداخل التركي، حتى الآن.