في السنوات الأخيرة، نشطت الدعوات هنا وهناك من قبل سياسيين ومثقفين لطرح شعار الدولة الديموقراطية الواحدة كبديل لشعار/ حل الدولتين. ربما يعود السبب إلى عامل محدّد يتكرر كثيراً في الكتابات الداعية لهذا الحل: فشل ممكنات تحقيق حل الدولتين نتيجة التداخل الديموغرافي الذي خلقه واقع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ما عنى انتفاء ممكنات قيام دولتين على أرض فلسطين. قبل تناول هذه القضية بالنقاش، يستوجب طرح السؤال البديهي: ما الفائدة من النقاش حول شكل الدولة فوق أرض فلسطين قبل إنهاء المشروع الاستيطاني أصلاً لفلسطين وتحريرها من هذا المشروع وتجسيداته؟ من الزاوية التاريخية، فإنّ حقيقة الاستعمار الصهيوني لفلسطين وترحيل 850 ألف فلسطيني في عام 48 وبناء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، تجعل من القضية الفلسطينية قبل كل شيء قضية تحرير للوطن وعودة للاجئيه، وتجعل من توصيف «الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الترحيلي» هو التوصيف الدقيق علمياً وتاريخياً، وغير ذلك تلاعب بالألفاظ يموّه أو حتى يشوّه الحقيقة. بالاستناد إلى هذه الحقيقة التاريخية، فإنّ هدف الشعب الفلسطيني هو تحرير فلسطين وعودة اللاجئين. والتحرير يعني هنا، دون مواربة، إنهاء/ تفكيك وجود المؤسسات الصهيونية التي كانت بمثابة تجسيدات للمشروع: دولته بمختلف مؤسساتها، ومستوطناته اليهودية. ومرة أخرى غير ذلك، أي حديث عن هدف النضال الوطني لا يتضمن تحرير فلسطين وفق المنظور أعلاه وعودة اللاجئين لا يغدو كونه إدارة الظهر للحقوق التاريخية لشعبنا.

الهرولة في الفكر السياسي الفلسطيني
بداية، أودّ التأكيد على ما أعتقده ظاهرة التسلسل التنازلي في الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر، منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة حتى اليوم. فمن شعار تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني (تحرير فلسطين) كمدخل للحل الديموقراطي للقضية الفلسطينية بإقامة دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية، مروراً بشعار السلطة الوطنية في عام 1974، ومن ثم الدولة الفلسطينية في حدود عام 1967 الذي تحوّر إلى الشعار الملغّم (دولتان لشعبين)، ليصل إلى سلطة الحكم الإداري الذاتي حسب «أوسلو»، وصولاً إلى دولة بوش (القابلة للحياة)، والتي غازلها فريق «أوسلو الجديد» (عباس/ فياض) وإن ليس علانية. أقول، منذ عام 1967 ومسلسل التنازل الفلسطيني (الرسمي على الأقل) بات لا يعرف حدوداً، حتى أصبح شعار الدولة مشروعاً أشبه بمشاريع المنظمات غير الحكومية، مقدّماً للتمويل الغربي من لدن حكومة فياض، وبمعزل عن التحرير والتحرر وإزالة الاستيطان، بمعزل عن دحر مشروع الكولونيالية الصهيونية في فلسطين.
إنني لا أرى بهذا العملية التنازلية في الفكر السياسي محض «واقعية سياسية» كما يروّج، وتحديداً من بعض قوى اليسار أو اليمين الفلسطيني الحاكم، في المنظمة سابقاً وسلطة الحكم الذاتي حالياً. إنه تعبيرٌ عن التحولات الطبقية داخل قيادة حركة المقاومة في حقبة السبعينيات بتأثير الحقبة النفطية، بحيث عكس التنازل ثقل النخب البيروقراطية على رأس جهاز المنظمة حينذاك، هذا الثقل الذي أوصل بتحالفه مع الرأسمال الفلسطيني في الخارج إلى «أوسلو»، ليغدو مشروع السلطة والحال هذه تحالفاً طبقياً جديداً أدار الظهر للمسألة الوطنية مقابل فتات المكاسب الاقتصادية تحت الاحتلال.

العودة للمربع الأول
واليسار الذي كان أدرك حقيقة تلك التحولات، وأطنب في الكتابة والحديث عنها، لم يتخذ لنفسه موقفاً سياسياً بديلاً، بل اندرج في المسار ذاته تحت شعار المرحلية والواقعية السياسية، فبات الحضور طاغياً لشعار «لتقرير المصير» بديلاً من شعار «التحرير»، ولدولة الضفة والقطاع بدلاً من الدولة الديموقراطية على كامل التراب الوطني. ونقطة تحول هامة سجّلها المؤتمر الثامن لـ«الجبهة الشعبية» بإعادة تأكيده على «تحرير فلسطين، كل فلسطين من النهر إلى البحر، وإقامة دولة فلسطين الديموقراطية على كامل التراب الوطني الفلسطيني»، كما أعلن البيان الختامي للمؤتمر.
والمسألة إذاً ليست في أن ضرورة العودة لشعار الدولة الديموقراطية العلمانية يأتي في سياق انسداد الأفق أمام شعار الدولة المستقلة في حدود عام 67، بل يستوجب القول بوضوح إن ضرورة العودة للشعار/ الهدف هي عودة للمربع الأول الصحيح. بمعنى آخر إن تصويب مسار الفكر السياسي، كمراجعة نقدية ضرورية، يستوجبه ضرورة الرد السياسي اليساري على المآل الذي أوصلتنا إليه قيادة اليمين للنضال الوطني من جهة، ورداً على مسار التبعية السياسية لليسار لذلك اليمين.
ولا بد هنا من تأكيد مسألة أعتقدها مهمة، يجب الربط المحكم بين الشعار/ الهدف وبين المهمة الوطنية الأهم: تحرير فلسطين، أي بكلمات أخرى إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني الكولونيالي وتجسيداته لفتح الطريق أمام بناء دولة فلسطين الديموقراطية على كامل التراب الوطني الفلسطيني. إنّ هذا الربط لا يأتي فقط من الزاوية المنطقية البدهية: تحرير الوطن قبل الحديث عن بناء الدولة الموحّدة (فياض مثلاً روّج لدولته من دون الحديث عن التحرير)، بل إنه ربط يرد على دعوتين أقل ما يوصف أنهما بهلوانيتان؛ الأولى: تلك الدعوة لضم الضفة والقطاع إلى إسرائيل لكسب المعركة الديموغرافية، وبالتالي هزيمة إسرائيل انتخابياً، هكذا وبكل سذاجة. كان قد طرح هذا سري نسيبة مطلع الثمانينيات، ويعود اليوم فريق «أوسلو»، الذي يعتقد أنه يتذاكى سياسياً، فيما هو مهزوم وغبي، ليطرحه، على سبيل إحراج إسرائيل! الثانية: ما طرحه إدوارد سعيد من أن الدولة الموحدة طريقها المثاقفة، هكذا المثاقفة، في أحدث نسخة «إنسانية» لليبرالية الممجوجة.
هناك ما أسمّيه ذاك الغرق في التفكير الدولاني، فكر/ هدف الدولة المستقلة، الذي يغزو الفكر السياسي الفلسطيني منذ عام 1974 مع برنامج النقاط العشر الذي بات يتسلل ويهيمن رويداً رويداً حتى غدا بديلاً من الفكر التحرري


وكي تستقيم الأمور أكثر، طالما نتحدث عن مراجعة نقدية، فمن المهم ربط الشعار/ الهدف بالأداة النضالية التي ستحمل هذا الهدف: مهمات كفاحية وبرامج عمل. وهنا بالذات لا نأتي بجديد على خبرة الحركة الثورية العالمية: فالجهاز يخدم السياسة لا السياسة تخدم الجهاز، على حد تعبير لينين الموفق، فبرنامج تحرري ثوري يستلزم حزباً ثورياً، وهنا بالذات، أيضاً يكمن امتحان اليسار الذي بات عليه تأكيد انحيازه إلى بناء الحزب الثوري على الأرض، وكذا إعلان برنامجه الاستراتيجي والعمل عليه. إنّ تحرير فلسطين عملية تاريخية طويلة تستوجب اشتراطات عديدة أهمّها: ربط النضال الوطني التحرري الفلسطيني بالنضال القومي العربي بديلاً لربطه بالأنظمة وأجهزة استخباراتها، والتحالف مع القوى الثورية فعلاً في العالم، لا مع أنصاف الثوريين والليبراليين على تنويعاتهم، والأكثر أهمية: بناء الحزب الثوري القادر على حمل أعباء النضال بديلاً لأحزاب الترهل والعلانية والمكاتب والفضائيات!
وللإنصاف، ينبغي الإشارة إلى أن الشعار/ الهدف بدولة فلسطين التاريخية كان مبثوثاً في برامج اليسار الفلسطيني (على الأقل الجبهتان «الشعبية» و«الديموقراطية») وإن بصيغ أخرى، ولكن هل الموضوع يكمن في تثبيت الشعار كشعار/ هدف أم في بناء الأدوات التنظيمية لتحقيقه، وفي تعبئة الجماهير بشرعيته وصوابيته، وفي نظم التحالفات التي تخدمه، وفي اجتراح السياسة اليومية التي تصب فيه؟ يقيناً إننا نعني الثاني، ويقيناً أعتقد أن على اليسار الثوري، وتحديداً «الجبهة الشعبية»، ضرورة إعادة تأكيد الوجهة التي اختطتها في المؤتمر الثامن، تأكيدها في الممارسة السياسية والنضالية والتنظيمية والتعبوية اليومية.
إذا أردنا حقاً مراجعة نقدية، فلنعتبر بالمثل اليوناني: هنا الوردة فلترقص وهنا القلعة فلتقفز، لأن مسار اليسار الفلسطيني، في مراجعاته (النقدية) العديدة، لم يفعل سوى الرقص عند القلعة والقفز عند الوردة! فالمراجعة النقدية إن أريد لها أن تكون نقدية فعلاً تعيد الاعتبار للدور التاريخي لليسار، فعلى اليسار أن يتصرف كبديل ثوري لبرنامج اليمين من جهة، وللمشروع الكولونيالي الصهيوني من جهة أخرى، لا أن يكتفي بتلك المعارضة (الديموقراطية) المفرّغة من أي بعد ثوري: طبقي وتنظيمي وسياسي وكفاحي. إنه طريق طويل ولكنه على الأقل مجرّب تاريخياً!

ما موجبات الطرح أصلاً؟
وعودة إلى السؤال الأهم: ما موجبات طرح الموضوع؟ أولاً هناك ما أسمّيه ذاك الغرق في التفكير الدولاني، فكر/ هدف الدولة المستقلة، الذي يغزو الفكر السياسي الفلسطيني منذ عام 1974 مع برنامج النقاط العشر الذي بات يتسلل ويهيمن رويداً رويداً حتى غدا بديلاً من الفكر التحرري أو التحريري بشكل أدق، ليغدو الاهتمام بشكل الدولة وتسويقها فلسطينياً وعربياً وعالمياً، ولا تستغربوا إن قلت إسرائيلياً، هو الشغل الشاغل.
أمّا ما أعتقده الخلفية الثانية التي تقف خلف هذا التفكير فهو السعي لـ«تسويق» الموقف الفلسطيني عالمياً، وحتى إسرائيلياً، إذ يعتقد مروّجو هذا الطرح أن العالم «يستوعب» فكرة الدولة الديموقراطية الموحدة، أكثر من استيعابه الحديث عن التحرير وتفكيك المؤسسات الصهيونية برمتها، ككيان ومستوطنات، وكذا فهو يقدم للإسرائيليين حلاً لا يقوم على «إرهابهم» بالحديث عن التحرير، بل عن إقناعهم بالحياة المشتركة. هذه الخلفية على ما أعتقد تحركها قناعات ليبرالية، تفترض «حضاريتها وعقلانيتها» تبحث عن مفردات خطاب يقنع الرأي العام حتى لو على حساب الحق التاريخي والهدف التاريخي لشعبنا بالتحرير والعودة، فمثلاً يجري الاستعاضة عن مفردة التحرير مثلاً بإنهاء الفصل العنصري ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي كمقدمة لبناء الدولة الموحدة، وهنا لا تغيب فقط مفردة/ هدف التحرير بل ويجري تشويه طبيعة المشروع الصهيوني كمشروع استعماري ترحيلي استيطاني إحدى ممارساته فعلاً على الأرض، وليس جوهره، الأبارتهايد والفصل العنصري.