لا شيء يشغل القدس عن القدس، أسوار بلدتها منتصبة قائمة، كما لو أنها بُنيت للتوّ. ولا يفتّ من عضد بلدتها القديمة جنود احتلال مدجّجون، ولا مستوطنون يعبرون إلى بيوت استولوا عليها ببطش دولتهم. يتقاطر سيّاح حجاج بلغات عالمية، ليتمثّلوا رحلة المسيح على درب الآلام، وليتقاطع طريقهم مع مؤمنين آخرين، ينزلون من باب الواد إلى المسجد الأقصى قبل صلاة الظهر. مئات آلاف يمرّون عبر حواجز نصبتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مداخل القدس، لا تلهيهم أسماء الشوارع التي بدّلتها إسرائيل، ولا بنايات المستوطنات الشاهقة التي حاصرت بها سماء المدينة على مدار عقود. هنا بوابة السماء غير العابئة بالحواجز العسكرية التي ترصد حتى الطيور المحلّقة.

وكما يلتقي المقدسيّون وأنصارهم من مختلف مناطق فلسطين المحتلة، ليصدّوا اقتحامات المستوطنين المتواصلة للمسجد الأقصى ولكنائسها المرابطة، أو للتضامن مع عائلات الشيخ جراح التي تتهدّدها محاولات إسرائيل طردها من بيوتها، تلتقي الكتب كذلك بأصحاب لم تعهدهم من قبل، هكذا فقط لأنها تأبى الرحيل عن المدينة المقدسة.
وقصة الكتب هذه تشبه القدس تماماً، تشبه أهلها المعذبين الذين لا يكلّون من تحمّل العذاب، طالما أنهم بقوا فيها. للكتب هذه قيامتها التي يبدو أنها تريدها أن تجاري قيامة القدس الموعودة، ولمَ لا، وهي أرض المحشر والمنشر، كما يردّد المؤمنون على اختلاف كتبهم وتفسيراتهم الدينية؟
وفي أصل الحكاية، يذهب خالد الغول، المقدسي المنشغل بهموم الثقافة، ابن بلدة سلوان جارة الأقصى الجنوبية، إلى بيت عزاء عند الجهة الشمالية من القدس، حيث «أرض السمار» من أراضي بلدة لفتا، كبرى بلدات القدس التي احتلتها إسرائيل عام 1948. وعلى أرض السمار هذه، صمدت عائلات من لفتا لم تبرح منازلها، وأقامت جمعية أهلية تعنى بشؤون الناس الاجتماعية والثقافية.
ظلّ أهل «أرض السمار» التي غزتها مساكن تابعة للجامعة العبرية القريبة، وفنادق وعمارات تجارية، في منازلهم، ولمّا بات من نصيب مقرّ الجمعية أن يهدم، في طريقه للتحوّل إلى بناية تجارية، أصبح مصير مئات الكتب والمخطوطات التي اتخذت من مقر الجمعية منزلاً لها على مرّ عقود، على شفى حفرة من النار.
وإن كان ثمة ترجمة متاحة وحاضرة لـ«يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحي» أن تظهر أمامنا، فإن مكتبة «أرض السمار» على مدخل القدس الشمالي، تبدو مثالاً على ذلك. يقول الغول «ونحن منشغلون في بيت العزاء، والترحم على الميت، اقترح عليّ أحد الحضور الذي يعرف اهتمامي بالكتب أن أحتضنها». ومن هنا بدأت قيامة المكتبة.
يقول الغول: «ما تقوم به إسرائيل، عملية غسل دماغ جارية ومتواصلة، وجزء من إيديولوجيا معادية. وبدون مقاومتها، سيجد المثقف الفلسطيني نفسه منغمساً فيها من غير أن يدري»


ولم تمرّ أيام على نقل «المكتبة» إلى أمام منزل الغول في سلوان، حتى زاره صديق يطلب كتاباً لابنه الصغير، الذي لم تفتنه التكنولوجيا الحديثة الرقمية عن سحر الكتاب التقليدي، وليكتمل أيضاً ركن آخر من أركان قيامة مكتبة «أرض السمار» التي لا تزال في طور التشكل. يقول الغول: «قال لي صديقي إن ابنه يبحث عن كتب مطبوعة لمحمود درويش وغسان كنفاني وغيرهم»، وأضاف: «تملّكني شعور عظيم عندما أعطيته الكتاب، ولمعت في ذهني فكرة، ونشرت على صفحتي على فايسبوك، وكتبت طالباً التبرّع بكتب... نحو مكتبة أهلية عامة في القدس».
وفوجئ الغول، ابن القدس التي تعرف المعجزات، ولا تؤثر فيها المفاجآت، من حجم ردود الفعل على دعوته لإنشاء مكتبة عامة في القدس. انهالت عليه عروض التبرع بالكتب والمساعدة، يقول: «كانت تلك أجمل الورطات التي تورّطت بها، والآن أنا منهمك في جمع الكتب والبحث عن مكان يستطيع أهل القدس الوصول إليه بكل سهولة ويسر».
وطالما كانت القدس، بمسجدها ومدارسها ومكتباتها التاريخية، مقراً للدارسين والباحثين والمؤلفين، وحرصت إسرائيل منذ احتلال الجزء الشرقي من القدس عام 1967، وإعلانها لاحقاً «عاصمة» لها، على الإغلاق والتضييق على المتاحف والمراكز والمؤسسات التي تعنى بالثقافة وبهوية المدينة الفلسطينية العربية الإسلامية والمسيحية.
وفي الوقت الذي يحاول فيه الغول إنشاء مكتبة عامة في القدس، وتصارع فيه المؤسسات والمراكز الثقافية الأخرى في المدينة، للبقاء بسبب القيود والضغوط التي تفرضها إسرائيل، تمضي بلدية الاحتلال الإسرائيلي في ضخ أموال كبيرة، وافتتاح مراكز ثقافية واجتماعية ورياضية، تفوق قدراتها كثيراً قدرات المراكز الفلسطينية، في سعيها المحموم لـ«تهويد» المدينة. ولا تستطيع المراكز والمؤسسات الفلسطينية الحصول على دعم من السلطة الفلسطينية، خشية إغلاقها من قبل السلطات الإسرائيلية، بينما تقف السلطة الفلسطينية بعيداً بذريعة التزامها باتفاق «أوسلو» الذي يمنعها من العمل في القدس.
ويقول الغول: «ما تقوم به إسرائيل، عملية غسل دماغ جارية ومتواصلة، وجزء من إيديولوجيا معادية. وبدون مقاومتها سيجد المثقف الفلسطيني نفسه منغمساً فيها من غير أن يدري». وحتى قيام السلطة الفلسطينية عام 1994، احتضنت القدس مقارّ الاتحادات والنقابات والجمعيات الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكنها رحلت جميعاً إلى رام الله بعد ذلك.
عادة ما تكون مبادرة مثل إنشاء مكتبة عامة، حتى لو أنها جاءت في عصر الرقمنة، أمراً طبيعياً، لكنها في القدس تأخذ طابعاً مغايراً ملاصقاً لطبيعة المدينة الروحانية التي تظلّ تخطو على طريق القيامة، أو هكذا يشير الغول: «التحدّي في أن يصبح المألوف والعادي مشكلة، لا أعرف ماذا ستؤول إليه الأمور، لكن أعرف أنه ممكن وبحاجة إلى جهد جماعي».