تتعاظم معضلة إسرائيل في الضفة الغربية المحتلّة، في وقت تفقد فيه سياسة إدارة الصراع بلا أثمان فاعليتها، وتتكاثر التعقيدات أمامها. وبينما تُواصل عمليات المقاومة تطوّرها كمّاً ونوعاً، تضيق الخيارات الناجعة أكثر فأكثر أمام تل أبيب، التي لا تجد قيادتها العسكرية في تنفيذ عملية عسكرية كبيرة يطالب بها الفاشيون، سوى منافع تكتيكية مرحلية، لن تنعكس جدوى وازنة على المستوى الاستراتيجي. لكن هل تغلب إرادة الانتقام لدى مكوّنات الحكومة الإسرائيلية من اليمين المتطرّف واليمين الفاشي، قرار المؤسسة العسكرية الانكفاء حتى الآن عن عمليات واسعة النطاق ستجلب تداعيات مؤذية للاحتلال؟ سؤال بات يتقدّم بقوّة في أعقاب كمين جنين وعملية «عيلي» وما سبقها، من دون أن يجد إجابة حاسمة إلى الآن.صحيح أن الكثير من «المزايدات» الدائرة حالياً داخل الكيان، ترتبط بالانقسامات السياسية المستمرّة على الساحة الإسرائيلية، إلّا أن الظاهر أن إسرائيل تسير بغير إرادتها إلى عملية عسكرية في شمال الضفة الغربية، من المتعذّر في هذه المرحلة تقدير حجمها ومدّتها، وتبعاً لذلك تداعياتها. لكن الأكيد أن صاحب القرار في تل أبيب، والمقصود هنا المؤسّستَين العسكرية والأمنية، يواجه معضلة اتّخاذ القرار بهذا الخصوص؛ إذ تعترض هكذا عملية، خاصة إن أريدَ لها أن تكون واسعة النطاق، جملة عقبات، على رأسها الخسائر المتوقّعة في صفوف الجيش الإسرائيلي، في مقابل محدودية النتائج المتوخّاة وعدم «مضمونيّتها». كما أن هجوماً من هذا النوع لن يقتصر على مدينة جنين ومخيمها فحسب، بل من شأنه أن يتمدّد بإرادة الفلسطينيين إلى بقية مدن الضفة ومخيماتها، بما يشمل الوسط حيث السلطة الفلسطينية ذات شأن وسلطة نسبيَين، ما يعني مضاعفة الخسائر الإسرائيلية.
يُضاف إلى ما تَقدّم، أن إسرائيل تُخاطر، والحال هذه، بأن تستتبع عمليتها العسكرية في الضفة مواجهة مع قطاع غزة، بل وأيضاً «تمرّداً» داخل أراضي عام 1948، ناهيك عن احتمال إثارة جبهات أخرى، تُعدّ، وفقاً للتقديرات الإسرائيلية، متوثّبة لإيذاء العدو. كما يخاطر الجيش الإسرائيلي باستنزاف قدراته وموارده وتركيزه الاستخباري في الضفة وما يرتبط بها مباشرة من ساحات فلسطينية أخرى، على حساب التركيز على ساحات وجبهات يجب أن تكون في أعلى سلّم اهتمامات المؤسّسة الأمنية في إسرائيل، بالنظر إلى أن المرحلة الحالية مشبَعة بتهديدات استراتيجية تكاد تقترب من التهديد الوجودي، كما هو حال البرنامج النووي والتسليحي الإيراني، وتنامي قدرات حلفاء إيران على الساحة اللبنانية. كذلك، تجازف المؤسّسة الأمنية، في حال تنفيذ العملية العسكرية، بشلّ أو حتى إنهاء السلطة الفلسطينية، بل وامتناع إمكانية إحيائها لاحقاً، ما يعني حتمية تولّي إسرائيل شؤون الملايين من فلسطينيي الضفة، مدنياً وأمنياً وحياتياً، مع احتكاك مباشر يفضي بدوره إلى مزيد من العمليات الفدائية، مع التذكير، هنا، بأن الإبقاء على السلطة يمثّل مصلحة إسرائيلية صافية، بالنظر إلى كون الأولى جزءاً لا يتجزّأ من عوامل تمكين «الأمن القومي» للكيان.
ثمّة ضغط هائل على أصحاب القرار في هذه المرحلة، خصوصاً من المستوطنين وزعمائهم الفاشيين


لكن في المقابل، ثمّة ضغط هائل على أصحاب القرار في هذه المرحلة، خصوصاً من المستوطنين وزعمائهم الفاشيين، في وقت تتراجع فيه قدرة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي وعد الإدارة الأميركية بأن يبقي مقود القيادة بين يديه، على ضبط جموح ائتلافه، وهو ما بات واضحاً ومكشوفاً، على نقيض ما كان عليه الحال مع بدء ولاية حكومته الحالية. ولئن كانت لدى الجيش الإسرائيلي القدرة على المناورة عبر خيار الحصار والتضييق والعمليات الاستعراضية ضدّ جنين ومخيّمها وما يقرب منهما من قرى وبلدات فلسطينية، والتي قد يطلق عليها تسمية «السور الواقي 2»، إلّا أن هكذا مناورة لن تعمّر كثيراً، وستنكشف سريعاً مع وقوع المزيد من العمليات الفلسطينية المرجَّحة في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن الانكفاء عن تدفيع المقاومين ثمن عملياتهم من «كيس» الحاضنة المدنية، لن يردع هؤلاء، فرادى أو جماعات، عن مواصلة جهودهم وتحسينها.
أمّا الإشكالية الكبرى بالنسبة إلى إسرائيل، في خضم ذلك المشهد المتعقد، فهو ما تراه تدخّلاً إيرانياً مباشراً في ساحة الضفة، بوصف الأخيرة مكوّناً رئيساً من مكوّنات جبهة الصراع الإقليمي مع العدو، وهو تدخّل تسليحي وإرشادي وتوجيهي وتمويلي. وعلى رغم أن تل أبيب تدرك صعوبة استهداف هذا العامل الخارجي، خشية التسبّب بمواجهة لا تقاس نتائجها بتداعيات أيّ مواجهة مع الساحات الفلسطينية ولو كانت واسعة، فإن ما يَجري التشديد عليه، في سياق النداءات الإسرائيلية لشنّ عملية واسعة النطاق في الضفة، هو «وجوب النظر إلى القضاء على البنية التحتية للإرهاب (المقاومة) ليس فقط في السياق الفلسطيني، بل في السياق الإيراني. فمن شأن خطوة كهذه أن تضرّ بالجهود الإيرانية لزعزعة الاستقرار والأمن (في إسرائيل)، وتعطيل استراتيجية العمل الإيرانية التي تسعى إلى استخدام الساحة الفلسطينية كجبهة عمل أخرى ضدّ إسرائيل»، كما رأت «هآرتس». وفي الاتّجاه نفسه، أشارت «يديعوت أحرونوت» إلى أن «الجوّ العام لغياب السلطة (الفلسطينية) من جهة، واتّساع الدوائر الإرهابية (المقاومة) باستخدام العبوات الناسفة من جهة ثانية، والتورّط الإيراني وتورّط حزب الله من جهة ثالثة، كلّه يذكّر بجنوب لبنان في الثمانينيات. احتمال التصعيد بات أعلى، وقد تجد إسرائيل نفسها في جولة قتال أوسع وأكثر أهمية في وقت وفي ظلّ ظروف ليست بالضرورة مواتية لها».