غزة | كان واضحاً، خلال الأسبوعَين الماضيَين، أن جيش الاحتلال يُجري في مخيم جنين، الذي شهد هدوءاً نسبياً طوال شهر ونصف شهر تقريباً، عملية جسّ نبض، أو «استطلاع استخباري بالنار»؛ إذ عمد إلى تنفيذ عدّة عمليات مداهمة على أطراف المخيم، هدفت إلى استثارة المقاومين وإجبارهم على الخروج من مواقعهم، بهدف جمع معلومات دقيقة عن أعدادهم وعتادهم وآخر ما وصلت إليه تكتيكاتهم القتالية. وأتى ذلك في سياق تحديد الإجراء الميداني الأنسب للتعاطي مع مناطق شمال الضفة الغربية، التي كثر الحديث على لسان المحلّلين العسكريين في وسائل الإعلام العبرية، عن أنها ستكون في انتظار عملية أمنية كبيرة. على أن الصدمة التي تعرّضت لها قوات الاحتلال في حيّ الجابريات، حين فجّر المقاومون عبوة ناسفة كبيرة أسفل عربة ناقلة جنود «النمر»، ثمّ حاصروا القوات المتوغّلة بالنار طوال أكثر من 10 ساعات، فجّروا في خلالها العشرات من العبوات في الجيبات المتوغلة، ما تسبّب بتضرّر وإعطاب نحو عشر آليات، إلى جانب مروحية، قلبت الحسابات وأعادت خلط الأوراق تماماً.صورة الهزيمة، التي أظهرت آليات العدو وهي تقتاد العديد من الجيبات المعطوبة إلى خارج المخيم، لم تجهض فقط فعالية الإجراءات الميدانية التي ظلّ يتّبعها الاحتلال منذ بدء عملية «كاسر الأمواج» في آذار 2022، إنما عمّقت من حالة تآكل قوة الردع، والتفوق التكنولوجي الميداني الذي أمضى رئيس أركان جيش العدو، هرتسي هاليفي، نحو ربع كلمته في «مؤتمر هرتسيليا للأمن القومي»، وهو يتباهى به، خصوصاً في ساحة الضفة، التي يتحكّم القادة العسكريون بمجريات أيّ عملية ميدانية فيها من داخل غرف عملياتهم المتطوّرة وكأنهم في لعبة فيديو. أمام ذلك، كان اللجوء إلى استخدام سلاح الجو، في خلال الاجتياح الأخير للمخيم، ثمّ في تنفيذ عملية اغتيال الشهداء صهيب الغول وأشرف السعدي ومحمد عويس، بواسطة طائرة مقاتلة مسيرة، لأوّل مرّة منذ عام 2006، بمثابة إجراء ضروري لاستعادة صورة القوة والاقتدار، في الوقت نفسه الذي استبطن فيه إقراراً بأن خلايا المقاومة انتقلت إلى مرحلة لم يعُد يجدي معها العمل بطريقة العامين الماضيين.
لم يعلن الجيش إحالة قضية واحدة إلى محكمة خلال العمليات


ويعيد التطوّر الميداني الأخير في جنين، إلى الأذهان، بداية استخدام هذا السلاح، لأول مرّة، في خضمّ انتفاضة الأقصى الثانية في قطاع غزة، وتحديداً ما بين عامَي 2002 و2004. آنذاك، كشف جيش الاحتلال أن بوسع الطائرات المسيّرة التي يسمّيها الغزيون «الزنّانة»، إطلاق الصواريخ، ومهاجمة الأهداف الأرضية على نحو دقيق، بعد الخسائر الجمّة التي كان يمنى بها في كلّ حادثة توغل. يقول مصدر في المقاومة لـ«الأخبار»: «بدأ العدو، حينها، عملية عسكرية حملت اسم قطف الورود، يقوم تكتيكها على تنفيذ عمليات اقتحام ميدانية، تجبر المقاومين على الخروج للتصدّي الميداني، لتقوم الطائرات المسيّرة باغتيال أكبر عدد منهم»، مضيفاً أن «تلك التجارب التي خسرنا فيها المئات من المقاومين، هي التي أجبرتنا على العمل من تحت الأرض، كي نحرم العدو هامش التفوّق الجوي».
وبالعودة إلى ما ينبئُ به استخدام سلاح الطائرات المسيرة في جنين، يقدّر المصدر ذاته أن «الاحتلال يمتلك تقديراً بأن أعداد المقاومين في المخيم لا تتجاوز الـ200 عنصر، ما يعني أن توظيف سلاح الجو في استنزاف القدرة البشرية في هذه المرحلة، هو خيار يمكن أن يكون منجِزاً، وفق الفهم الإسرائيلي». غير أن هذا التكتيك، وإن كان سيضاعف الضغط على خلايا المقاومة، إلّا أنه سيضع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أمام واقعية الدخول الفعلي في مرحلة الانتفاضة الثالثة، التي ستنخرط فيها، والحال هذه، كافة أطياف الشارع الفلسطيني. ومردّ ذلك أن تأثير عمليات الاغتيال من الجوّ، النفسي أولاً والميداني ثانياً، أكبر من تأثير عمليات التوغّل الجراحية، التي كان يقوم بها الاحتلال لاغتيال عنصر ما، فيما يحرص على أن تستمرّ الحياة المدنية في المدن الفلسطينية من دون تغيير، لإشعار السكان بأن مشكلة العدو هي مع شريحة معزولة عن المجتمع، وليس مع الشارع كلّه.