تتكاثف، في خلفيّة العدوان على جنين، جملة أسباب وعوامل، ليست الاعتبارات السياسية الداخلية الإسرائيلية، وتلك الميدانية والاستخبارية - والأخيرة كان لها في الواقع الدور الحاسم في اتّخاذ القرار - مستبعدةً من بينها، فيما تتصدّرها خشية قادة العدو من تطوّر قدرات المقاومة في الضفة الغربية، ونجاحها في حرمان المستوطنين أمنهم، وتحوّلها إلى تهديد للعمق الاستراتيجي لدولة الاحتلال. وجاء هذا العدوان، الذي يُعدّ الأكبر منذ عملية «السور الواقي» عام 2002، بعد تمهيد سياسي وإعلامي، تَحوّل خلاله الخيار الواجب اتّباعه في مواجهة المقاومة في الضفة بشكل عام وجنين بشكل خاص، إلى قضية محورية في السجال الداخلي في وسائل الإعلام ومعاهد الأبحاث. ومع رسوّ قيادة الاحتلال على خيار العملية العسكرية، يمكن استشفاف جملة أبعاد ورسائل تتّصل بأكثر من عنوان وساحة، أشار إلى بعضها حديثُ الناطق باسم جيش العدو، العميد دانيال هاغاري.في مقدّمة تلك الأبعاد، تأتي حقيقة تحوّل جنين إلى عامل فائق الخطورة بالنسبة إلى الاحتلال، وخاصة بعدما بدا أنها تتمتّع بقدر من الحصانة نسبةً إلى بقية المناطق، وباتت أكثر قدرة على المبادرة وإلحاق الخسائر المؤلمة بالجنود والمستوطنين. كما يكشف اختيار جنين كساحة للعملية العسكرية، عن خشية قيادة العدو من تحوّلها إلى نموذج يقتدى في بقيّة المناطق الفلسطينية، وهو ما لم يُخفِه العميد هاغاري، الذي أعلن أن الهدف من العدوان «تقويض التصوّر بأن جنين أصبحت مدينة ملجأ» بالنسبة إلى المقاومين. وإذ ينبئ هذا الحديث بالثقل النوعي لجنين في وعي قادة العدو، فهو يؤشّر إلى أن واحداً من الأهداف المباشرة والرئيسة للعدوان عليها، تبديد شعور المقاومين بالأمن، وإشعارهم بأنهم مطارَدون ومستهدفون، فضلاً عن ضرب بنيتهم التحتية بشقَّيها المادّي والبشري، وهو ما أكده الناطق العسكري بقوله إن الهدف «ليس احتلال جنين، وإنما إضعاف» المقاومة.
كذلك، يأتي العدوان بعدما سجّلت العمليات الفدائية قفزة نوعية، وتحوّلت إلى تحدّ جدّي لمؤسّسة القرار السياسي والأمني، وأشعرتها بتعاظم التهديد الذي تتّسع دائرته لتشمل العمق الاستراتيجي للكيان. ولعلّ أكثر ما أقلق العدو في تلك العمليات، هو اتجاهات المستقبل، في ضوء معطيات الحاضر في الضفة، التي تشكّل الساحة الأهمّ والأكثر خطورة على أمن الكيان. وبعدما ألغى هذا التحوّل مفاعيل سياسة الاحتواء التي راهنت قيادة الاحتلال على نجاحها في الحدّ من الأثر الأمني للمقاومة، وأظهر محدودية تأثير عملية «كاسر الأمواج» المستمرّة منذ أكثر من سنة، فلم يكن ثمّة بدّ من العملية الحالية، التي، للمفارقة، تمثّل امتداداً للمسار نفسه، وإن عُدّت ارتقاءً نوعياً مضبوطاً كبديل من شنّ عملية عسكرية واسعة على مستوى الضفة. ولذلك فإن أهمّ ما سيشكّل مادة ترويجية لدى حكومة بنيامين نتنياهو، هو أن هذا العدوان يمثّل تغييراً للاتجاه الذي كان سائداً سابقاً، ويؤسّس لخيار بديل يتساوق مع دعوات الجناح اليميني المتطرف، الذي سيقدّم العملية، بدوره، على أنها نتاج تأثير مشاركته في الحكومة.
الهمّ الأكبر الآن بالنسبة إلى قيادة العدوّ، يتّصل باليوم الذي يلي العملية


في المقابل، تؤكد التجارب السابقة أن جيش العدو لن يستطيع إنهاء المقاومة في جنين؛ إذ إن هذا الهدف لم يتحقّق حتى عندما كانت المقاومة أقلّ خبرة وقدرة ممّا هي عليه الآن. لكن بين الاكتفاء بسياسة الانكفاء والدفاع، وبين الخيارات الدراماتيكية الواسعة، وجدت قيادة الاحتلال أن عليها رفع مستوى المبادرة في إطار إدارة الصراع وفرض قواعد اشتباك أكثر هجومية، على الأقلّ من أجل إرباك المقاومين أو إضعافهم. ولعلّ ممّا حفّزها، أيضاً، إلى هذا الخيار، تراجع مراهنتها على إمكانية أن تقوم السلطة الفلسطينية بتلك المهمّة نيابةً عنها، وهو ما يفيد به الكثير من التقارير الإسرائيلية التي تشير إلى أن أجهزة العدو ومعاهد أبحاثه عكفت على دراسة مفاعيل تقوّض مكانة السلطة وسبل إعادة تعزيزها، ليخلص معظمها إلى محدودية فاعلية ذلك الخيار.
أمّا الهمّ الأكبر الآن بالنسبة إلى قيادة العدو، فهو يتّصل باليوم الذي يلي العملية؛ إذ إن استمرار عمليات المقاومة وتطوّر قدراتها سيُظهِّر فشل العدوان، ويوجّه صفعة قاسية إلى حكومة نتنياهو، وسيؤكد ضآلة تأثير هذه الاعتداءات في مواجهة الشعب الفلسطيني. كما يقلق الاحتلالَ، احتمالُ تنفيذ عمليات قاسية خلال العملية أو بعدها، حيث سيجلّي ذلك إخفاق سياسة حكومة نتنياهو، وسيضعها أمام خيارات أكثر ضيقاً وخطورة، وسيدحرجها إلى عتبة اتّساع دائرة المواجهة لتشمل كامل الضفة الغربية، وصولاً إلى إمكانية دخول المقاومة في قطاع غزة على خطّ المواجهة.
في خضمّ ذلك، لم يغب عن قادة العدو، استغلال عدوانهم المتواصل على جنين، من أجل توجيه رسائل إلى «حزب الله»، عبر تأكيد استعدادهم للمغامرة بخيارات عسكرية واسعة النطاق، على رغم معادلة الردع القائمة، والتي لا ينكرها الاحتلال نفسه، وتشديدهم على أن الوضع الداخلي الاسرائيلي لا يشكّل عاملاً كابحاً للقيادتين السياسية والعسكرية عن المبادرة إلى مثل هذه الخيارات. لكن التجارب السابقة تثبت أن تلك الرسائل تبدّدت حتى قبل أن تصل إلى مستهدَفيها الذين رأوا فيها مزيداً من المؤشرات إلى تراجع قوة إسرائيل ومحدودية خياراتها.