رام الله | بعد أكثر من 24 ساعة من بدء العدوان على مخيم جنين، ووسط الدمار الذي خلّفته آليات الاحتلال في أزقّته وشوارعه، وقفت امرأة خمسينية أمام كاميرات المصورين الصحافيين، متسائلة بسخرية: «كل هاي القوات جاية من شان شباب من مواليد 2004، دولة بقواتها وطائراتها بتواجه شبان بعمر 19 سنة؟». في هذا الوقت، نشر مقاومون رسالة تركها أحد المواطنين لهم في منزله، يخبرهم فيها بأن بيته «فداهم»، ويقول: «الأكل والمونة في الدار وفي البراد. في باب خلفي بطلع على حوش جيرانا لو بدكم تنسحبوا، وفداكم الدار طوبة طوبة، المهم تظلّكم بخير. في 700 شيكل في الفريزر لو لزمكم مصاري، الله يحميكم وياخذ بيدكم». تلك بعضٌ من مشاهد جلّت متانة الحاضنة الشعبية للمقاومة في تلك البقعة من شمال الضفة الغربية المحتلّة.يعيش في مخيم جنين نحو 15 ألف لاجئ، تحوّلوا إلى عنصر أساسي في معادلة الصمود التي رسّخها المخيم خلال السنوات الأخيرة، سواء عبر إمداد المقاومين بمستلزماتهم، أو دعمهم معنوياً ولوجستياً. وفي كلّ عدوان، يضع جيش الاحتلال هذه البيئة الشعبية الحاضنة هدفاً له، ساعياً من خلال ضربها وتدمير ممتلكاتها إلى الضغط على المقاومة، وتأليب الرأي العام عليها، لكنه يفشل في ذلك في كلّ مرّة. وفي العدوان الحالي، عمل العدو، تحت تهديد القصف والتدمير، على تهجير ما بين 1500 و3000 مواطن مساء الاثنين من أطراف مخيم جنين، مروّجاً في الوقت نفسه لفرار هؤلاء من منازلهم، في محاولة لتقويض الثقة بينهم وبين المقاومين. إلّا أن الأهالي سرعان ما هبّوا لتأكيد صمودهم في منازلهم، فيما تَبيّن أن من خرجوا منها إنّما اضطرّوا إلى ذلك، وهم نسبة قليلة، سرعان ما لاقوا الدعم من بقيّة السكّان، إذ فُتحت أمامهم الفنادق والقاعات، فيما أعلن مواطنون توفير منازلهم وشققهم لاستضافة المهجّرين، الذين بدأت سريعاً أيضاً عملية إسنادهم وتوفير احتياجاتهم في غضون دقائق.
ومنذ الساعات الأولى، تعمّد جيش الاحتلال قصف منازل المواطنين وممتلكاتهم وتدميرها، كما تعمّد تخريب الخدمات العامة، من تجريف للشوارع، وتهشيم لشبكات المياه والكهرباء والهاتف، توازياً مع اقتحام البيوت وتدمير أساساتها باستخدام جرافات «D9» والطائرات الحربية. ومع ذلك، رفض معظم الأهالي الخروج من المخيم، وأصرّوا على مساندة المقاتلين مهما كلّف الأمر، في ما ذكّر بفشل العدو المدوّي قبل 21 عاماً في كسر الحاضنة الشعبية في جنين. آنذاك، دمّر جيش الاحتلال أجزاء كبيرة في المخيم، وسوّى منازله في الأرض، وهجر أهله، وداس بجنازير آلياته عظام الشباب والأطفال، ليجد أهله اليوم أكثر إصراراً على التمسّك بخيار المقاومة، على رغم ما تخلّل تلك السنوات من ترويج لوهم الانفتاح الاقتصادي والتنمية، ومحاولات لإعادة هندسة المخيم جغرافياً واجتماعياً، ثبت أنها لم تؤتِ أكلها.
مع استمرار صمود المقاومة في مخيم جنين، ومن خلفها الحاضنة الشعبية، لليوم الثاني على التوالي، بات فشل جيش الاحتلال أكثر وضوحاً


ومع استمرار صمود المقاومة في مخيم جنين، ومن خلفها الحاضنة الشعبية، لليوم الثاني على التوالي، بات فشل جيش الاحتلال أكثر وضوحاً، وخاصة في ما يتعلّق بتحقيق الهدف المعلَن من العملية، والمتمثّل في القضاء على المقاومة في المخيم، بما يسمح لاحقاً بمنع تنفيذ أيّ عملية ضدّ جنود الاحتلال أو مستوطنيه انطلاقاً منه. وعلى رغم محاولات العدو تضخيم إنجازاته عبر وسائل إعلامه، إلّا أن هذه «الإنجازات» تبدو باهتة إلى الآن، وهذا ما يدفعه إلى تركيز هجومه على الأهداف المدنية والخدماتية. وعلى رغم الفارق الكبير بين إمكانات المقاومة البسيطة، وإمكانات جيش الاحتلال الهائلة، والذي يجعل المواجهة غير عادلة وغير متساوية، إلّا أن المقاومين استطاعوا ضمن تكتيكات وترتيبات ميدانية، إيقاع خسائر في صفوف العدو، ونصب كمائن لجنود المشاة، والانسحاب في حالات عدة. وفي هذا الإطار، أكدت فصائل المقاومة في مخيم جنين، في رسالتها أمس، نجاحها في تكبيد العدو خسائر في أكثر من كمين محكم، وأن «مقاتليها بخير، وقد أفشلوا كلّ محاولات العدو التقدم إلى عمق المخيم»، مضيفةً إن «أهلنا في جنين ومخيمها هم الحصن والحاضنة المتينة للمقاومة، ولن يرهبهم التخويف والتهديد الذي تمارسه آلة العدو الإعلامية، وسيبقون متمسكين بدورهم الوطني المقاوم».
إزاء ذلك، حاولت صحيفة «يديعوت أحرونوت» التخفيف من وطأة الفشل العسكري في مخيم جنين، والتمهيد لما بعده بالقول إن «عناصر كتيبة جنين سيعودون إلى القتال بعد انتهاء هذه العملية العسكرية»، بينما رأت صحيفة «هآرتس» أن العملية العسكرية «لن تحقّق أهدافها كاملة»، وأن «على قادة أحزاب اليمين في الحكومة ومناصريهم في الكنيست والمستوطنات، التقليل من توقعاتهم»، مضيفةً إن «كبار المسؤولين في المؤسسة الأمنية ليس لديهم أي أوهام بأن هذه العملية ستحدث تغييراً جوهرياً في الواقع الأمني»، وإن «الهدف في الوقت الحالي هو توجيه ضربة إلى الخلايا المسلحة تُصعّب من محاولاتهم تنفيذ هجمات». وأشارت إلى أن «هناك حاجة إسرائيلية إلى إنهاء العملية بسرعة نسبياً خوفاً من التورّط في ساحات أخرى»، مرجّحةً أن «يتمّ إطلاق صواريخ من غزة في حال ازدياد عدد الشهداء الفلسطينيين، كما يُتوقّع أن تنفّذ هجمات انتقامية في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر». وختمت بأنه «قد تكون إسرائيل قادرة على إحداث نوع من الهدوء المحدود، لكن الصور من جنين ستكون أرضية خصبة أخرى لنموّ جيل آخر لا يرى أفقاً».
ولم تتأخّر ترجمة التوقّعات الإسرائيلية؛ إذ هزّت عملية فدائية (دهس وطعن) تل أبيب ظهر الثلاثاء، على يد الشاب حسين خلايلة من مدينة الخليل، وهو أحد نشطاء حركة «حماس»، ما أسفر عن 7 إصابات، 3 منهم في حال الخطر. وجاءت العملية بعد ساعات من تهديد فصائل المقاومة بالرد على العدوان على جنين، في حين فجّر هذا الأخير مواجهات واشتباكات في مناطق متفرّقة في الضفة. وقد نفّذت مجموعات المقاومة، فجر أمس، عدّة عمليات إطلاق نار على قوات الاحتلال في السيلة الحارثية في جنين، بينما أعلنت «كتيبة عسكر» استهداف حاجزَي بيت فوريك وحوارة قرب نابلس بصليات كثيفة من الرصاص. كما خاض مقاومون اشتباكاً مسلحاً مع جنود العدو قرب مستوطنة «بساغوت»، المقامة على أراضي مدينة البيرة، قبل أن ينسحبوا بسلام، فيما اندلع اشتباك آخر قرب مستوطنة «بيت إيل» القريبة. وفي قلقيلية، أطلق مقاومون النار باتجاه قوات الاحتلال قرب بلدة عزون، تزامناً مع اندلاع مواجهات قرب البلدة وعلى الحاجز القريب من المدينة. كذلك، أطلق مقاومون النار باتجاه جنود العدو الذين انتشروا على المدخل الغربي لبلدة بيت فجار جنوبي شرقي بيت لحم. وفي القدس المحتلة، فتح مقاومون النار بكثافة باتجاه قوات الاحتلال المتمركزة على حاجز مخيم قلنديا، قبل أن ينسحبوا بسلام.