انسحبت إسرائيل من جنين بعد عدوان استمرّ يومين، أفشلت فيه المقاومة محاولة آلاف الجنود المتلطّين خلف غطاء جوي، اقتحام مخيم المدينة الذي لا تتجاوز مساحته كيلومتراً مربعاً واحداً. انسحابٌ ثبّت معه حقيقة مفادها أنه «لا حلّ سحرياً» للمقاومة، وفق ما أقرّ به الناطق باسم جيش الاحتلال نفسه، فيما ذهب صحافيون ومحلّلون أبعد من ذلك، مقرّين بأن على إسرائيل تقديم التنازلات لحلّ هذه المعضلة. وإذا كانت دولة الاحتلال قد لجأت إلى هذا الخيار، بعدما لمست تطوّراً ملموساً في أداء المقاومة في الضفة الغربية، والتي بدأت تخطو الخطوة الأولى على طريق «الألف ميل» نحو نموذج غزة، وأيضاً بعدما تحوّل مخيم جنين إلى معقل للمقاومين الذين ينطلقون منه لتنفيذ العمليات في عمق الكيان، وفي أعقاب مفاجأة هؤلاء العدو بقدرتهم على إعطاب آلياته المصفّحة بالعبوات الناسفة، فإن العدوان انتهى بالفشل في تفكيك أيّ حلقة من حلقات تلك السلسلة المعقّدة.

وفي هذا الإطار، يرى أفيرايم غنور، في مقالة في صحيفة «معاريف»، أنه «غداً، أو بعد غد.. سيعود الباعة المتجوّلون إلى مستديرة المدينة، وجنود الجيش الإسرائيلي سيخلدون إلى قواعدهم بسلام، فيما قسم عمليات هيئة الأركان سيشرع في إضافة ملفٍّ جديد إلى الخزانة الكبيرة، سيُنتظر ضمّه إلى صفحات البحوث الهادفة إلى استخلاص العبر، وذلك تحت عنوان «عملية بيت وحديقة - نغيّر المعادلة». وعندئذ، سيتبادر مجدّداً السؤال الأبدي: ماذا بعد؟». «في ذلك الصيف، وبالتحديد في الأيام التي أعقبت حرب الأيام الستة (النكسة العربية الكبرى)، تجوّل الجميع هنا (حول جنين) وهم في حالة من السكر والانتشاء إثر شعورهم بالانتصار وبأنهم أسياد الأرض»، كما يستذكر غنور، راوياً «(أنّني) انضممت بدوري إلى قوّة خاصة، كانت مهمتها تحديد مواقع دبابات الجيش الأردني التي تضرّرت وهُجرت خلال المعارك، من أجل اغتنامها وتصليحها. هكذا وصلت حينئذ إلى جنين، إلى منطقة المعركة المريرة التي دارت في وادي دوتان القريب». ويتابع: «مثل كُثر غيري، اعترتني مشاعر النشوة آنذاك، فبُحت لنفسي بأن جنين وعمق دوتان لن يعيشا مرّة أخرى مشاهد الحرب والدبابات. لم أتخيّل حينها للحظة واحدة أنه بعد 56 عاماً ستأتي الحرب على نباتات الكُركُم الجميلة التي تزهر هناك في هذا الوقت من العام».
ويتابع غنور: «لقد مضى وقت طويل منذ أن استحالت جنين رمزاً ومدينة ملجأ للإرهاب الفلسطيني. وإذا كانت مكة هي رمز الإسلام، فإن جنين هي مكة الإرهاب». وإذا كان السؤال الرئيس الذي يطرحه «العديد من الإسرائيليين الغاضبين والراغبين في الانتقام منذ فترة طويلة»: «لماذا لا نضع حداً لجنين مرةً واحدةً وإلى الأبد؟»، فإن الإجابة التي يتلقّونها دائماً هي «عملية تلحقها أخرى»، كما يقول الكاتب، مقرّاً بأن المقاومة في جنين هي «مثل ثيل (نبات عشبي معمر) اقتُلع ولا يختفي؛ فقد عاد هذا الإرهاب إلى الظهور مجدداً»، متسائلاً: «ألم يحن الوقت لإعادة الحساب، والبحث عن طرق أخرى للتعامل مع الإرهاب الذي يخدعنا، ويعيد اختراع نفسه في كل مرة، مستمراً في تدفيعنا الثمن الباهظ؟». لكن غنور ينبّه إلى أن «هناك جيلاً فلسطينياً شابّاً، له أحلام ورغبات»، يسأل نفسه: "إلى متى سنستمر في العيش تحت الاحتلال في فقر ومن دون أفق؟، ومن ثم يجيب نفسه بأنه يجب أن نتحرك ونوقف هذه المعاناة ونفعل ما لم يفعله آباؤنا وأجدادنا منذ أكثر من 50 عاما"ً». ويضيف: «هذا جيل لم يشهد حروباً ولا انتفاضات، ويرى أمام عينيه حياة الرفاهية والثراء والسعادة الإسرائيلية، من دون أن يبدي استعداداً لتقبل مصيره المرير». وعليه، فـ«الإرهاب ليس الردّ على مثل هذا الواقع، تماماً كما أن الحرب التي لا هوادة فيها ضدّ الإرهاب والعمليات الناجحة والمثيرة للإعجاب، لن تكون حلاً»، من وجهة نظر غنور، الذي يعتقد أن المطلوب «قيادة شجاعة، غير متحيّزة، وغير متمسّكة بالصور النمطية، وكذلك لا تخضع للتأثيرات والضغوط، ومدركة لكلّ إخفاقات الماضي، ومستعدة لتقديم التنازلات، بالرغم من أنها يمكن أن تكون مؤلمة لكلا الطرفين، والسبب أنه من دون تنازلات لن نتمكّن من إنهاء هذا الصراع الأبدي». وفي هذا المجال، يعتقد أنه «من الواضح أنه في ظلّ قيادة أبو مازن ونتنياهو، لا يمكن التوصل إلى حل؛ فكلاهما فاقدان للشجاعة والرغبة المطلوبة للتوصل إلى اتفاق، وكلاهما خاضعان للضغوط والتأثيرات».
هذه ليست عملية عسكرية واسعة النطاق وذات مغزى، وهي قد تخدم فقط أهداف نتنياهو السياسية


أمّا محلل الشؤون الفلسطينية في «يديعوت أحرونوت»، آفي يسخروف، فيَعتبر أنه من الممكن تصدير العدوان على جنين بوصفه «عملية تكتيكية ناجحة حقّقت هدفاً عسكرياً رئيساً، متمثّلاً في تقليص كمية الوسائل القتاليّة في أيدي المسلحين الفلسطينيين في جنين»، وكذلك بوصفه «واحدة من أكثر العمليات نجاحاً على المستوى السياسي بالنسبة إلى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو»، الذي قد يحصد من جرّائها «بعض الاستقرار لحكومته غير المستقرّة، لأسابيع أو شهور إضافية»، فيما جمهور اليمين «سيكون قادراً بالفعل على نسيان حقيقة أنه منذ بداية ولاية الحكومة اليمينية نشهد زيادة كبيرة في العمليات، والهجوم في تل أبيب (أوّل من أمس) مجرد مثال آخر على ذلك». لكن ما تَقدم، بحسب يسخروف، هو مكمن «المشكلة الكبيرة بالضبط: فالعملية في أحسن الأحوال تعطي الأكامول (البراسيتامول) لمريض ميؤوس من حالته». صحيح أنها قد تكون «قلّلت من الخطر القائم في مخيم جنين من حيث عدد الأسلحة الموجودة داخله، لكن من غير المتوقع بالتأكيد أن تؤدّي إلى انخفاض حقيقي في العمليات. فـ«بيت وحديقة» ليست «سوراً واقياً 2»، كما يرى الكاتب أنه «بالرغم من أن نتنياهو وجمهوره يحاولان تسويقها على هذا النحو، لا يمكن المقارنة بين العمليتين حتى على مستوى عدد القتلى الذين سقطوا، وأولئك (المقاومين) الذين لا يزالون في داخل المخيم».
ويلفت يسخروف إلى أن ثمة «حقيقة مدهشة تجهلها قطاعات كبيرة من الجمهور الإسرائيلي، مفادها أن معظم المسلحين المطلوبين انسحبوا من المخيم فور بدء العملية والهجوم الجوي»، مضيفاً أن هؤلاء «أدركوا اتجاه هبوب الرياح، ولذلك اختاروا الاختفاء، سواء في مستشفى المدينة أو في منازل المدنيين في أحياء أخرى خارج المخيم، لقد تعلموا الدرس من السور الواقي جيداً؛ إذ تركوا الجيش الإسرائيلي يتعامل مع معسكر أشباح». وتابع أنه «من الصحيح أن الجيش الإسرائيلي نجح في الكشف عن مختبرات المتفجرات ومخزونات الأسلحة، لكن في الخلاصة، المسلّحون لم يكونوا موجودين». ويخلص محلّل الشؤون الفلسطينية إلى أنه «يبدو أن الفلسطينيين قد فهموا ما لم يستوعبوه في إسرائيل: أن هذه ليست عملية عسكرية واسعة النطاق وذات مغزى، وقد تخدم أهداف نتنياهو السياسية... لكن لسوء الحظ بعد وقت قصير من مغادرة الجيش الإسرائيلي أزقة المخيم، سيعود المسلحون إليه ويستأنفون الهجمات من هناك».