ما إن بدأت القوات السورية والروسية مناورات مشتركة تشمل نطاقات العمليات الجوية والمراقبة والدفاع الجوي، وتمتدّ على أسبوع كامل، حتى خرقت الولايات المتحدة بروتوكول «منع التصادم» الموقّع مع موسكو، باختراق ثلاث مسيرات أميركية مناطق عمل المناورات الجوية، ما دفع القوات الروسية إلى طرد المسيرات. وبالتزامن مع ذلك، تابعت واشنطن تحصين مواقعها في المناطق النفطية شرق الفرات، وفي منطقة التنف عند المثلث الحدودي مع العراق والأردن، بعدما انتهت من المرحلة الأولى من عمليات تجهيز ميليشيات جديدة تابعة لها من مكونات عربية.وبينما اتهمت الولايات المتحدة، روسيا، أكثر من مرّة، بتنفيذ طلعات جوية مضايقة للقوات الأميركية، أعلن «مركز المصالحة الروسي في سوريا» أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة انتهك بروتوكول «منع التصادم» المعمول به منذ عام 2015 أربع عشرة مرة، في يوم واحد، بحسب نائب رئيس المركز، أوليغ غورينوف. وتأتي الاحتكاكات المتزايدة بين القوات الروسية والأميركية بالتزامن مع استقدام الولايات المتحدة تعزيزات عسكرية كبيرة، تتضمن، للمرة الأولى، مضادات جوية، ومنظومات «هيمارس»، إلى جانب منظومات حرب إلكترونية، بعدما جرى تدريب بعض الفصائل التي قامت واشنطن بتشكيلها وتوسيعها في منطقة التنف في البادية السورية، وأطلقت عليها اسم «جيش سوريا الحرة»، على بعض منها. وتتّهم موسكو، واشنطن، بتحويل التنف إلى قاعدة إمداد خلفية لدعم فصائل «إرهابية»، أبرزها «تنظيم داعش»، الذي يشنّ هجمات متواترة على مواقع للجيش السوري في البادية.
واللافت في الاختراقات الأميركية الأخيرة، ابتعادها بشكل ملحوظ عن محيط القواعد الأميركية في الشرق السوري؛ إذ جالت المسيّرات الثلاث في سماء ريف حلب الشرقي، على مقربة من مدينة الباب، حيث تجري القوات السورية والروسية مناورات مشتركة، الأمر الذي يفسر ردة الفعل الروسية الحاسمة. وقامت طائرات روسية بإطلاق أعيرة مضيئة وبالونات حرارية أجبرت المسيرات الأميركية على التراجع، لتضيف هذه الحادثة احتكاكاً جديداً إلى لائحة الاحتكاكات المتصاعدة في الآونة الأخيرة، على خلفية تمسّك الولايات المتحدة بوجود قواتها غير الشرعي في سوريا، ومحاولتها مواجهة العمل الروسي السياسي للحشد ضد هذا الوجود وفق مسار «أستانا»، الذي تنخرط فيه إيران وتركيا، توازياً مع تصاعد وتيرة الهجمات على مواقع الجيش الأميركي من قوات تابعة لـ«المقاومة الشعبية».
وفي هذا السياق، تصف مصادر ميدانية سورية، في حديث إلى «الأخبار»، الزيادة الملحوظة في النشاط الأميركي منذ نحو ستة أشهر، بأنها محاولة لإعادة التموضع في مناطق انسحبت منها القوات الأميركية خلال فترة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي حاول إخراج قواته من سوريا، قبل أن ينتهي المطاف بانحصار نشاط تلك القوات في المناطق النفطية، إلى جانب منطقة التنف. وما يُفسّر الاهتمام الأميركي على أعلى المستويات العسكرية بقاعدة التنف هو اعتبارها «قاعدة استراتيجية»، سواء بسبب وقوعها على مثلث حدودي مع العراق والأردن، أو كونها منطلقاً للهجمات الإسرائيلية على سوريا، على خلاف القواعد المنتشرة في المواقع النفطية والتي تسيطر عليها «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد).
تبدو الزيادة الملحوظة في النشاط الأميركي بمثابة محاولة لإعادة التموضع في مناطق انسحبت واشنطن منها


كذلك، تشير المصادر إلى الاهتمام الأميركي المتزايد بالرقة، ومحاولة إحياء النشاط الفصائلي في أوساط المكونات العربية (لواء ثوار الرقة) على حساب «قسد»، الأمر الذي يحقق لواشنطن وجوداً على مقربة من تركيا، من دون أي حساسيات تتعلق بالأكراد. وقد سلّطت موسكو مراراً، خلال اجتماعات مسار «أستانا»، الضوء على تلك المحاولات، التي تقابَل برفض مشترك من مختلف الأطراف الفاعلة في هذا المسار. وأتى ذلك بينما خطت هذه الأطراف خطوات متقدمة قد تفتح الباب أمام توافق سوري – تركي، من شأنه أن يعيد ترتيب الميدان السوري، وسط محاولات أميركية لعرقلته، بشتى الطرق المتاحة، بما يشمل تشديد العقوبات، وعرقلة عمليات إعادة الإعمار، ومحاولة منع عمليات العودة الطوعية للاجئين السوريين.
وهذه المرة، تأتي المناورات الروسية – السورية المشتركة، التي تعدّ جزءاً من عمليات تدريب متواصلة، في منطقة حساسة هي الشمال السوري، بالتزامن مع توافق سوري – تركي على خريطة طريق روسية للتطبيع بين البلدين، تقوم على مجموعة من المبادئ، أبرزها فتح الطرق الدولية، ووضع أجندة واضحة زمنية للخطوات التي يمكن اتباعها لخروج القوات التركية من سوريا. ومردّ ذلك أن عودة سيطرة قوات الحكومة السورية على المناطق الحدودية، وتخليص تركيا من عبء اللاجئين السوريين، هو أمر ترفضه واشنطن وشركاؤها «من دون ثمن سياسي»، وفق عدّة تصريحات غربية.
وفي سياق متّصل، تؤكد مصادر مطلعة ما كانت قد نشرته «الأخبار» سابقاً حول عرض أردني لاستضافة لقاءات مسار «أستانا» المقبلة، الأمر الذي حمله وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إلى أنقرة خلال الزيارة التي قام بها قبل يومين، بعد زيارته دمشق. وأتت هاتان الزيارتان في إطار مساعٍ لضمّ المسار الروسي إلى «المبادرة العربية»، بهدف تحقيق دفع كبير للعملية السياسية، وتسهيل عمليات العودة الطوعية للاجئين السوريين، ودعم مشاريع التعافي المبكر، وضبط الحدود، بالإضافة إلى فتح طرق الترانزيت الدولية، التي يُعدّ الأردن من أكثر دول الجوار تضرّراً من إغلاقها؛ إذ كانت تعبر البضائع بين دول الخليج العربي وتركيا وأوروبا عبر سوريا والأردن، ما يشكّل مورداً اقتصادياً معلّقاً منذ اندلاع الحرب السورية.