مع أنها ليست المرّة الأولى التي تُطرح فيها شركات حكومية للاستثمار الخاص، إلّا أن المعلومات المسرّبة عن قرب دخول «شريك» من القطاع الخاص على خطّ إدارة واستثمار «مؤسسة الخطوط الجوية السورية»، تسبّبت بخلق سجال واسع بين أقلّية مؤيّدة للخطوة وأكثرية معارضة، وسط تكتّم حكومي معتاد، له ما يبرّره بحسب مسؤولين حكوميين. ومردّ هذا السجال، الأهمية الخاصة التي تحظى بها مؤسسة الطيران، باعتبارها الناقل الجوي الحكومي الحصري من جهة؛ والمخاوف من إمكانية أن تمهّد هذه الخطوة لخصخصة مباشرة للقطاع العام، وما يترتّب على ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية لا تقتصر تداعياتها على 1.5 مليون شخص يعملون في هذا القطاع، وإنما تمتدّ لتشمل حوالي 3.5 ملايين أسرة تعيش اليوم أوضاعاً اقتصادية ومعيشية صعبة، من جهة ثانية. كما أن التجارب السابقة في هذا المجال، لم تكن غالباً ناجحة، فما الذي يجعل الحكومة تعاود تكرارها؟ وهل تمّ استنفاد جميع الخيارات المتاحة لإصلاح مؤسّسات القطاع العام؟
ليس اليوم
تجربة التعاون بين القطاعَين العام والخاص ليست جديدة في سوريا، وإن كانت قد اتّخذت أشكالاً مختلفة في كلّ مرحلة من مسيرتها. إلّا أن أقدمها سُجّلت في القطاع النفطي، حيث تفرض الحاجة وجود شريك أجنبي يتولّى عمليات الاستكشاف والتنقيب عن النفط، وهو ما يعدّ تجربة منتشرة عالمياً بسبب ضخامة النفقات والاستثمارات المطلوب توظيفها والتقنيات المتقدّمة في هذا القطاع. لكن، ومع إقرار البلاد بحاجتها إلى إدخال بعض الإصلاحات على نظامها الاقتصادي قبل حوالي أربعة عقود من الزمن، ظهرت فكرة توسيع دائرة التعاون بين القطاعَين، أو بشكل أوضح: تعاون الحكومة مع بعض المستثمرين المحدّدين بغية تأسيس شركات مساهمة مشتركة في ثلاثة مجالات رئيسة: الزراعة، السياحة، والصناعة. غير أن تلك التجربة لم يُكتب لها النجاح في قطاعَي الزراعة والصناعة لأسباب عديدة، يحمّل كل طرف الآخر المسؤولية عنها. أمّا في السياحة، فإن النجاح في تشييد منشآت سياحية كبرى لم يمنع من تفاقم أزمة الثقة بين الطرفَين، ومن ثمّ الدخول في خلافات ومشاكل، وصل صداها إلى الإعلام ثمّ إلى القضاء. وبالانتقال إلى المرحلة الثانية من تعاون القطاعَين، فهي بدأت في العقد الأول من الألفية الجديدة، وتمثّلت في طرح مؤسسات وشركات عامة أو بعض منها أمام القطاع الخاص لإدارتها واستثمارها وفق عقود خاصة. وأبرز مثال على ذلك، كان طرح معمل الورق وبعض شركات الاسمنت الحكومية للاستثمار، وهي تجربة انتهت إلى اتهامات بفَوَات منفعة على خزينة الدولة بمليارات الليرات، وتالياً الحجز على أموال الشركة المستثمرة واللجوء إلى القضاء. لكن خلال الفترة نفسها، سُجّلت تجربة ناجحة، محورها محطة حاويات مرفأ اللاذقية، التي استثمرتها شركة فرنسية ولا تزال إلى اليوم. ومع دخول البلاد في أزمتها الكارثية، جاءت المرحلة الثالثة المتمثّلة في منح شركات أجنبية (إيرانية، روسية) حق استثمار بعض المنشآت الحكومية كمرفأ طرطوس، معمل الأسمدة، بعض مناجم الفوسفات، وغيرها.
في عام 2016، وتحديداً في الشهر الأول منه، كرّست الحكومة خيار الاستعانة بالقطاع الخاص في إدارة واستثمار المنشآت العامة، لكن هذه المرّة قامت بإدخال البنى التحتية والمرافق الخدمية ضمن القطاعات المستهدفة، حيث أصدرت قانون «التشاركية»، والذي عرّف «التشاركية» على أنها «علاقة تعاقدية لمدّة زمنية محدّدة ومتّفق عليها، بين جهة عامة وشريك من القطاع الخاص، يقوم بموجبها الأخير بالاستثمار في واحد أو أكثر من الأعمال الآتية: تصميم أو إنشاء أو بناء أو تنفيذ أو صيانة أو إعادة تأهيل أو تطوير أو إدارة أو تشغيل مرفق عام أو مشروع لدى الجهة العامة». فيما المقصود بمصطلح «التشاركية»، بحسب الباحث في الشؤون الاقتصادية والتنموية فادي عياش، هو «حشد كلّ الموارد والإمكانات المتاحة للبلد بجميع مكوناته وقطاعاته لخدمة مرحلة التعافي الاقتصادي أولاً، ومرحلة إعادة البناء والإعمار تالياً. وهذا أمر محتوم وضروري لسرعة إنجاز ذلك. وعليه، فالتشاركية صيغة مناسبة ومرغوبة لجذب الاستثمارات الأجنبية، ولا سيما العربية منها والصديقة، وتوظيفها في القطاعات الرئيسة التي تخدم التعافي السريع». ويضيف عياش، في حديث إلى «الأخبار»، إن المصطلح «لا يعني المشاركة بين القطاعين العام والخاص، فالتجربة السابقة في هذا السياق، من خلال القطاع المشترك وحتى التعاوني، غير مشجّعة، وذلك لتباين البنى والآليات والأهداف بين القطاعَين. كما أن التشاركية إذا أُحسن تطبيقها، لا تعني الخصخصة، ولا تؤدي إليها».

اشتراطات النجاح والمخاطر
على رغم التشديد الرسمي على عدم «المسّ» بملكية المؤسسات العامة تحت أيّ صيغة استثمارية كانت، بخلاف ما يجري تداوله شعبياً وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن سياسة الغموض المتّبعة حكومياً في إجراءات التعاقد واختيار الشريك الاستثماري، وبخلاف ما نص عليه قانون «التشاركية»، زادت من مستوى الشكوك والمخاوف لدى العديد من الأوساط، التي تعتقد أن قائمة حلول إنقاذ القطاع العام لم تنفذ بعد. وهذا ما يشير إليه صراحة رئيس «الاتحاد العام لنقابات العمال»، جمال القادري، الذي يؤكد أن «نقابات العمّال مع التشاركية عندما تكون مجدية وتقدّم قيمة مضافة للمؤسّسات، إلا أنها اليوم بحاجة إلى تقييم ومراجعة»، متسائلاً عن سبب طرح مؤسسات على «التشاركية» خارج القانون الخاص بذلك. وفي الحديث عن الحلول التي لا تزال متاحة لإصلاح القطاع العام، يقترح الباحث والوزير السابق، حسين القاضي، «تحويل مؤسسات هذا القطاع وشركاته إلى شركات مساهمة تملكها الدولة بالكامل، وهذا يضمن تحريرها من الأنظمة والإجراءات البيروقراطية المعيقة للعمل، وتخليصها كذلك من الفساد بفعل شفافية عملها وتدقيق حساباتها وفق المعايير الدولية». ويضيف القاضي، في تصريح إلى «الأخبار»، إنه «عند الاضطرار لبيع جزء من أسهم تلك الشركات ومن دون المسّ بملكيتها، فذلك يجب أن يتمّ لمؤسّسات وشركات متقدمة تكنولوجياً ولديها طرائق إدارة أفضل، وبعيداً عن أيّ حسابات سياسية أو اقتصادية».
سياسة الغموض المتّبعة حكومياً زادت من مستوى الشكوك والمخاوف


لكن، ومهما تكن مبرّرات الحكومة في توسيع خيار «التشاركية»، من محدودية الموارد والإمكانات المالية إلى قيود العقوبات الغربية وغير ذلك، فإن هناك عدّة اشتراطات لنجاح هذا الخيار، يلخّصها عياش بـ«ضرورة استبعاد التشاركية من القطاعات التي ترتبط بالمواطن بشكل مباشر، كأن تُطبّق على إنتاج الطاقة كالكهرباء مثلاً، لكن شريطة بقاء توزيع الطاقة حكراً على القطاع العام، لأنه يتضمّن مفاهيم وأعباء اجتماعية لا يهتمّ لها القطاع الخاص، وأيضاً استبعادها من القطاعات السيادية ذات التأثير على الأمن الوطني، والتي يجب أن تبقى بيد الدولة، وبالتالي حصر التشاركية في مشاريع البنى التحتية والإنتاجية، وليس الريعية، وذلك بغية تحقيق المساهمة المرجوّة في التعافي والتنمية». كما يشدد عياش على ضرورة «الحذر من أشكال عقود التشاركية الخطرة والتي تتضمّن مخاطر الخصخصة، وهي من دون شكّ تحتاج إلى بيئة عمل مناسبة تشريعياً». أمّا مخاطرها، فهي تكمن في 4 نقاط، تبدأ «بقلّة الخبرة في التعامل مع عقود التشاركية شديدة التعقيد، ولا سيما ذات الصيغ الدولية، ثمّ مخاطر عدم التزام المستثمر الخاص بالشروط التعاقدية، ما يؤدّي إلى توقف المشروع وخسارة الوقت والخدمة، فالمخاطر المرتبطة بمفهوم السيادة الوطنية ولا سيما في ما يتعلّق بالاستثمار الأجنبي، وأخيراً المخاطر المتعلّقة بالدور الاجتماعي للدولة ومستوى خدماتها وتكاليفها».