تتزاحم الأسئلة حول الأوضاع الداخلية في إسرائيل، وسط إشارات متضاربة بين إمكانية إيجاد حلول وسط، وبين المضيّ قُدُماً في تشريعات تُغلّب فئة إسرائيلية على أخرى، وتثير انقساماً حادّاً على مستويات مختلفة، اجتماعية واقتصادية وسياسية، وصولاً حتى إلى المؤسّسة العسكرية التي بدأت علامات التصدّع في صفوفها، في ظلّ اتّساع ظاهرة رفض الخدمة الاحتياطية. وعلى الأرض، لم تخفت موجة التظاهرات، بل سجّلت أمس ذروة وتوسّعاً جديدَين، ليس على خلفية التشريعات القضائية فحسب، بل وأيضاً في ظلّ نيّة اليمينَين المتطرّف والفاشي حشد أنصارهما في الشوارع بوجه معارضي «الإصلاحات»، الأمر الذي من شأنه التسبّب بصدام يَصعب تقدير نتائجه. وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تلقّى، أوّل من أمس، بعد سبعة أشهر من تولّيه منصبه، اتّصالاً هاتفياً من الرئيس الأميركي، جو بايدن، بعد مفاوضات امتدّت أياماً للاتفاق على الاتصال نفسه، الذي أعرب فيه، الأوّل، مبطناً، عن نيّته تجميد التشريعات التي تضعف القضاء الإسرائيلي، عبر السعي إلى تحقيق اتفاق واسع في إسرائيل إزاءها، لكن مع تمرير جانب واحد منها، متّصل بـ«قانون إلغاء ذريعة المعقولية».
يقف نتنياهو بين حكومة تُعدّ ملاذه الأخير، وبين توجّهه الرئيس كـ«ليبرالي» (أ ف ب)

إلّا أن هذا التعهّد، الذي حاول من خلاله نتنياهو احتواء الأزمة غير المسبوقة في علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة، سرعان ما استدرج مواقف رافضة من شركائه في الائتلاف الحكومي، والذين سيفعلون كلّ ما في وسعهم لعرقلة الاتفاق الذي تبلور بين رأسَي الهرم في واشنطن وتل أبيب، في حين شكّك الإعلام العبري في جدّية الدعوة التي تلقّاها نتنياهو للقاء بايدن، مع التنبيه إلى أنها جاءت عارية من المكان والزمان، وضمن المجاملات التي حرص الطرفان عليها خلال المحادثة الهاتفية. في المقابل، ذكرت أوساط مقرّبة من نتنياهو أن المفاوضات الجارية حالياً بتوجيه من الأخير، تستهدف «تليين» قانون «إلغاء المعقولية»، واصفاً المحادثات بين المعارضة والموالاة بهذا الشأن بـ«الجدّية»، وبأنه يمكن الرهان عليها لإنتاج توافق ما. ويعني ما تَقدّم، أن نتنياهو معنّي بأن يستحصل على إقرار للقانون، وإن بصيغة مخفَّفة، مع تأجيل لاحق لرزمة التشريعات إلى أن يتحقّق التوافق الإسرائيلي عليها، تماماً كما كان تأكيده في المحادثة الهاتفية مع بايدن.
في هذا الوقت، ظلّ العنصر الأبرز في المشهد الداخلي الإسرائيلي، هو تكشّف مؤشّرات تصدّع في الجيش على خلفية ظاهرة رفض الخدمة في الاحتياط، والتي لم تترك سلاحاً أو قسماً أو ركناً إلّا و«نخرته»، وصولاً حتى إلى سلاح الاستخبارات بفروعه وأقسامه، على رغم حساسية وأهمية دوره ووظائفه المتعدّدة، وكذلك إلى ألوية النخبة والقوات الخاصة والكوماندوز والطبابة واللوجستيك، وأسلحة البر والجو والبحر، وغيرها. وعلى رغم أن تقديرات جيش الاحتلال تفيد بأن هذه الحالة لم تصل إلى حدّ التصدّع الفعلي أو الإضرار بالجهوزيّة، إلّا أن الأيام الأخيرة حملت ما يمكن الخشية منه. وفي هذا الإطار، أشارت مصادر عسكرية رفيعة إلى أنه «على رغم العدد الكبير من الجنود والضباط في الاحتياط الذين أعلنوا أنهم يعلّقون خدمتهم، إلّا أن الجهوزية لم تتأثّر كثيراً»، مستدركةً بأن «الأيام الأخيرة شهدت رفض العشرات من جنود الاحتياط، ومعظمهم من سلاح الجو، الالتحاق بالخدمة الاحتياطية»، علماً أن رفض الخدمة في هذا السلاح لا يقارَن بنظائره في أيّ أسلحة أو فروع أخرى، بما فيها الاستخبارات، على أهمّية الأخير الفائقة.
تتكثّف مؤشّرات التصدّع في الجيش على خلفية ظاهرة رفض الخدمة في الاحتياط


وعلى هذه الخلفية، رفع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، الصوت عالياً، وعبّر عن استيائه من التطوّرات الحاصلة داخل الجيش كارتداد للانقسام الضارب في المجتمع، مذكّراً بأن الجيش يستمدّ قوته من عديده ومن تماسكه ومنعته، تماماً كما يستمدّها من كفاءته، في إشارة منه إلى أن الكفاءة السليمة، من دون التماسك، لا تكفي وحدها لمواجهة التحدّيات. ونبّه هليفي، في إحاطة أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة لـ«الكنيست»، إلى أن التحدّيات الحاضرة في الساحات المختلفة، البعيدة منها والقريبة، تتطلّب من الجيش أن يظلّ يقظاً، وأن يعزّز ردعه، من أجل النجاح في «الحفاظ على واقع جيّد لمواطني إسرائيل»، وهو الحديث الذي فسّره المراقبون على أنه تحذير، أكثر من كونه سرداً نظرياً لواقع الجهوزيّة العسكرية والتحديثات، وخصوصاً أنه حذّر أيضاً من أن رفض الخدمة في الاحتياط «يسيء إلى الجيش الإسرائيلي، ويضرّ بأمن الدولة؛ إذ إن أهمّ شيء في المؤسسة العسكرية هو الأفراد، من مجنّدين ونظاميين واحتياط».
في غضون ذلك، قوبلت الأهمّية التي تعمّدت الولايات المتحدة إحاطة زيارة الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ، إلى واشنطن، بها، بتناغم تامّ في الإعلام الإسرائيلي، الذي صبّ «اللوم والتوبيخ» على نتنياهو، كونه هو الذي تسبّب بتعميق الشرخ مع الإدارة الأميركية. إلّا أن المجمَع عليه في تل أبيب، هو أن الإدارة الأميركية أرادت، من خلال استضافة هرتسوغ، البعث بإشارتَين اثنتَين إلى الداخل الأميركي كما إلى إسرائيل: إعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة بـ«أمن إسرائيل واستقرارها»، وأوّلية الحلف الصلب القائم معها، من جهة؛ ومن جهة ثانية، الإعراب عن استيائها من أداء الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة نتنياهو. وتُعدّ هذه الثنائية مورد اطمئنان وخشية في إسرائيل في الوقت نفسه؛ إذ إن العلاقات بالواسطة بين رأسَي السلطة لا تعوّض فائدة العلاقات المباشرة بين الجانبَين، وكما يرى المراقبون والخبراء في الكيان، فإن «هكذا قطيعة ستبقى إشكالية، وستحمّل إسرائيل الدولة ثمناً يضرّ بشكل مباشر بالمصالح الإسرائيلية» (مركز أبحاث الأمن القومي في تل أبيب).