وفّرت شبكات التواصل الاجتماعي، وخاصة «فايسبوك» و«تويتر»، فرصة نادرة لكل مَنْ يريد التعبير عن موقفه، باستثناء طبعاً مَنْ لا ترغب الحركة الصهيونية بسماعه، فينصاع عبيدهم القائمون عليها، ويبدأ الشطب. ومع ذلك بقيت تلك الشبكات مساحة واسعة للتعبير، إلى حد يتطلب أحياناً قدرة هائلة على التحمّل والصبر لقراءة ما يُكتب لتدني مستواه، بل أحياناً لصبيانيته. لعل من أكثر ما أقرأه كنماذج على ما ذهبت إليه هو تلك التعليقات المستمرة على اليسار، هكذا (اليسار) بشكل عام، ومواقفه ونضالاته وحضوره.أثناء معركة «ثأر الأحرار»، ثاراً للشهداء القادة من «الجهاد الإسلامي»، أعلنت «كتائب الشهيد أبو علي مصطفى»، ونقلت عنها وسائل الإعلام المختلفة، مشاركتها في القتال ضد العدو الصهيوني بإطلاق الصواريخ نحو المستعمرات، ولاحقاً زفّت الكتائب لشعبها استشهاد 5 مقاتلين من وحدة الصواريخ على شرف الدفاع عن شعبها. وحتى في ظل هذا الوضع، وُجد مَنْ يعلق على «فايسبوك» بجمل من نوع «وين اليسار؟ انتهى اليسار؟ اليسار سحيج لأوسلو....» إلى آخره من تلك التعبيرات الإطلاقية التي لا تميز بين يسار مقاتل و«يسار» ارتهن لسلطة أوسلو منذ زمن. تعبيرات يبدو كاتبها في أحسن الأحوال لا يعرف شيئاً عما يدور على جبهة الصراع، وإن عرف وكتب ما كتب فوراء الأكمة ما وراءها.
ليست تلك بظاهرة جديدة على أيّ حال، فمنذ التراجع الذي وصل إلى حد انهيار بعض الفصائل المحسوبة على اليسار ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتوقيع اتفاقيات أوسلو، وحتى يومنا هذا، كُتب وما زال يُكتب العديد العديد من المقالات والدراسات والكتب حول أزمة اليسار، وكعادة الأمور، بعض ما كُتب يتميز بموضوعية وعلمية صارمة لا تعرف المجاملة عند الحقيقة مع انحياز لفكر اليسار وحرص على مستقبله، وبعضه بائس لا يستحق الالتفات إليه، سواء لسطحيته وافتقاره للمعطيات، أو لعدائيته بفعل منطلقاته الدينية واليمينية. وقد وصلت الأمور إلى حد تنظيم مؤتمر لمناقشة أزمة اليسار قبل سنوات بتمويل مؤسسة أجنبية غير حكومية، هي مؤسسة روزا لوكسيمبورغ الألمانية، شارك فيه العديد من القادة اليساريين، في تطور لافت على مستوى التدهور، بحيث يبحث اليسار أزمته بتمويل غربي.
إشكاليات عديدة تطاول النقد اليومي الموجه إلى «اليسار» والبعيد عن الموضوعية والحصافة العلمية، وأولى تلك الإشكاليات وضع قوى عديدة ضمن «اليسار» ضمن تصنيف تعويمي واحد أوحد: اليسار دون تمييز يقتضيه لا البرنامج فحسب، بل الممارسة من جهة، وحقيقة الموقع من الاشتباك مع العدو الصهيوني من جهة ثانية.

أولاً: على صعيد البرنامج
وما نعنيه هنا هو المفصلان الرئيسيان في القضية الوطنية الفلسطينية، أولهما، الموقف من المشروع الصهيوني في فلسطين، وتالياً الموقف من دولة هذا المشروع، وثانيهما الموقف من هدف الشعب الفلسطيني من نضاله.
ليس سراً أن برنامج العديد من القوى والفصائل المصنّفة «يسارية» تقر بمشروعية المشروع الصهيوني في فلسطين انطلاقاً من «تحليل» ماركسي مزعوم حول حق اليهود بتقرير المصير، كما درجت أدبيات الشيوعيين الفلسطينيين، وتحديداً من هم داخل منطقة 48، علماً أن لينين كان سجّل الموقف الماركسي برفضه المطلق لفكرة تقرير المصير لليهود كفكرة رجعية، وعلماً أيضاً أن الوثائق التاريخية والبحث المتأني يؤكدان حقيقة أن هذا «التحليل» ليس سوى تغطية على التبعية للموقف السوفياتي في عام 1947 من قرار التقسيم، ولاحقاً من الاعتراف بالكيان الصهيوني «كدولة تقدّمية» كما وصفها غروميكو وزير الخارجية السوفياتي آنذاك. وقبل هذا التحليل وذاك، فإن رفض المشروع الصهيوني ينبع من موقف وطني وقومي، سياسي وأخلاقي، لاغتصاب فلسطين وتشريد أهلها، قبل أن يزكيه التحليل الماركسي الرصين، أمّا فصائل أخرى فسلّمت بالأمر الواقع الذي فرضه أوسلو، ولا تخفي انحيازها لشعار الدولتين بما يتضمنه الاعتراف بالكيان.
وتلك نقاط خلافية جوهرية ستترك بالتأكيد تأثيرها على تحديد الحدود الواجبة للتصنيف السياسي للقوى، إذ من الصعوبة بمكان، بالنسبة إلي، وأعتقد إلى قطاعات عديدة، اعتبار الرافض للمشرع الصهيوني في فلسطين بكل تجسيداته على نفس مستوى الحدود التصنيفية مع مَنْ يقر بشرعية الكيان الصهيوني ووجوده على أرض فلسطين ضمن تسويات مقترحة.
وصلت الأمور إلى حد تنظيم مؤتمر لمناقشة أزمة اليسار قبل سنوات بتمويل مؤسسة أجنبية غير حكومية هي مؤسسة روزا لوكسيمبورغ الألمانية


لذلك، فالبرنامج في مفصله هذا هام جداً لتحديد التخوم بغرض التصنيف بين قوة وأخرى في إطار ما يُعرف بـ«اليسار»، فيما يبدو التعويم دون تحديد تلك التخوم تمييعاً للفروق الجوهرية بين القوى في أفضل الأحوال، أمّا في أسوئها فهو «رخصة» مجانية لاحتلال موقع يساري دون صلة باليسار. رخصة يحتاج إليها مَنْ ليس له أي موقع ولا أي ثقل في النضال الوطني، فلا بأس بالنسبة إليه بهذا التصنيف المشرف. ويلحق بهذا المفصل المفصل الآخر وهو هدف النضال الوطني، وهنا تختلف تلك الفصائل المصنّفة بين مَنْ يدعو ويناضل لتحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطين الديموقراطية على كامل التراب الوطني، بما يقتضيه هذا من تفكيك كامل لكل تجسيدات المشروع الصهيوني الدولانية والمؤسساتية والديموغرافية، وبين مَنْ تمترس عند شعار اليمين: دولتان لشعبين بما يقتضيه الاعتراف الصريح بالكيان الصهيوني.
وينضاف إلى البرنامج بمفصليه أعلاه الركيزة الإيديولوجية لليسار ونعني الماركسية. لقد جرى تعويم اليسار حتى بات مصطلحاً يفتقد لتلك الركيزة، إذ به يجمع الماركسيين مع الليبراليين، ومَنْ يعتقد نفسه بينهما، في توليفة واحدة.
إنّ تلك القوى والفصائل بالتأكيد يمكنها فعلاً أن تلتقي في الممارسة الميدانية اليومية على قضايا نضال مشترك كالأسرى والاستيطان والدفاع عن حقوق العاملين والفئات الشعبية، ولكن من الخطأ بمكان إعطاؤها تصنيفاً واحداً «اليسار». فالعلاقة الميدانية النضالية شيء، كمبدأ رئيس في العمل والتكتيك السياسي، والحديث عن تحالفات ووحدة منطلقها تصنيف يضم الجميع، شيء آخر، لا يحمل أيّ مقوّمات حقيقية لا سياسية ولا فكرية.

ثانياً: الممارسة الكفاحية
لننكأ الجرح هنا دون مجاملة. ليس كل مَنْ يُصنفون يساريين، هم وتنظيماتهم في اشتباك مع الصهاينة فعلياً، لا في قطاع غزة ولا في الضفة الغربية، وبالتالي لا يتعرضون للملاحقة الاستخبارية والقمع من المحتلين، فيما آخرون يشتبكون في غزة عبر القتال مع كل الفصائل المقاتلة ضد الكيان الصهيوني، ومع المحتلين عبر كل الوسائل في الضفة الغربية. الممارسة بالنسبة إلى اليسار، كفهم نظري، هي المعول لتحويل البرنامج إلى حقيقة سياسية واقعية، أي معول للتغيير، وإلا فلا فائدة لبرنامج نضال إن لم يتعمّد بالممارسة، ويتحمل اليسار بالتالي تبعات تلك الممارسة، ملاحقة وقمعاً وأسراً واستشهاداً.
فهل يستوي هنا الذي يتعمّد نضاله بالدم في القطاع والضفة، مع مَنْ يكتفي بالنضال الإعلامي ومخاطبة الرأي العام، وإذا ابتعد أكثر فالنضال الجماهيري، وفي الحالتين فلا اشتباك مطلقاً لتنظيمه مع المحتل؟
منذ عام 2019 عندما نفّذ محسوبون على «الجبهة الشعبية» عمليتهم الفدائية ضد المستوطنين عند عين بوبين في محافظة رام الله، وامتدادات «الجبهة» في الضفة تتعرّض لملاحقة تكاد تكون شهرية، استدعاءات واتصالات هاتفية تهديدية واعتقالات وتحقيقات دموية وصلت إلى حد نقل المعتقل المناضل سامر العربيد على كرسي متحرك بين غرفة تحقيق وأخرى نتيجة عدم قدرته على الحركة بفعل التعذيب الدموي بحيث شارف على الاستشهاد. حتى في ظرف كهذا، هناك مَنْ كان يكتب في لحظة جرأة صبيانية نادرة «أين هو اليسار؟ انتهى اليسار؟» على صفحات «الفايسبوك»، في عملية تعويم مجحفة حقاً بحيث ضمّ المصطلح مَنْ يستحق فعلاً وصف اليسار لأنه مقاتل، وبين مَنْ يتوجب عليه تصنيف نفسه تصنيفاً آخر احتراماً لمثل وقيم ونضال اليسار.