عندما يصل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى أنقرة، اليوم، سيتذكّر المراقبون أربعة أحداث لا تُنسى: الأول عندما وصف الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، وكان لا يزال في ذلك الحين رئيساً للحكومة، في تموز من عام 2013، السيسي بـ«الانقلابي»، لأنه لم يأتِ إلى السلطة بانتخابات «ديموقراطية»، بل عبر انقلاب نفّذه ضدّ الرئيس الراحل محمد مرسي؛ الثاني، هو «البكاء المرير» لإردوغان على مقتل الشابة أسماء البلتاجي (17 عاماً)، في 14 آب 2013، أثناء مشاركتها في الاحتجاجات على الانقلاب المصري؛ الثالث، هو شارة «رابعة» التي بدأ يرفعها إردوغان، في كلّ مناسبة، بأصابع كفّه اليمنى الأربعة، في دلالةٍ على سحق الاحتجاجات في ميدان رابعة العدوية في 22 نيسان 2015، وصار يفسّرها بأربع ثوابت لدى تركيا: أمّة، لغة، وطن، وعلم واحد؛ أمّا الحدث الرابع، ففي الداخل التركي، عندما تحدّث إردوغان في أحد الاحتفالات في 19 حزيران 2019، قبل خمسة أيام من انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول (فاز بها أكرم إمام أوغلو)، قائلاً في معرض تحريضه على إمام أوغلو: «يوم الأحد، هل سنقول نعم للسيسي، أم نعم لبن علي يلديريم؟»، مضيفاً: «المسألة مصيريّة إلى هذا الحدّ».على رغم كلّ ما تقدَّم، يستقبل إردوغان، اليوم، وبكلّ حفاوة، السيسي نفسه، مدشّناً بذلك مرحلةً جديدة من العلاقات التركية - المصرية. ومع أن زيارة الرئيس المصري تأتي كمحطّة متأخّرة عن المصالحات التركية مع دول وأطراف أخرى، من مثل إسرائيل والسعودية والإمارات، غير أن التقارب بين أنقرة والقاهرة بدأ في ربيع عام 2021، قبل أيّ اتّصال مع الدول الأخرى. وفي حينه، كانت مطالب مصر واضحة، وعلى رأسها: منْع نشاط جماعة «الإخوان المسلمين» في تركيا، ولا سيما أجهزتهم الإعلامية؛ والتوقّف عن التدخّل في شؤون مصر الداخلية أو مزاحمة مصالحها في ليبيا وشرق المتوسط. ومن بعد ذلك، انطلق قطار المصالحات بين تركيا وكلّ من السعودية والإمارات ومصر، فيما ظلّت المصالحة مع هذه الأخيرة متعثّرة وبطيئة، بالنظر إلى أنه «لا خيل عند مصر تعطيها، ولا مال». على أن الخطوة الاستثنائية الأولى، تمثّلت في «المصافحة» بين إردوغان والسيسي لدى افتتاح «مونديال قطر» لكرة القدم، في تشرين الثاني الماضي، لتليها مبادرة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بزيارة مواساةٍ ودعمٍ لتركيا بعد زلزال السادس من شباط الماضي، ولينتهي الحال إلى تبادل السفراء بين البلدَين في الرابع من تموز الجاري، ومن ثمّ الإعلان عن الخطوة الأكبر، أي زيارة السيسي لتركيا، والتي تستمرّ ليوم واحد فقط.
اليوم، سيكون «الديموقراطي» و«الانقلابي» وجهاً لوجه، وستكون «المصلحة الوطنية العليا» فوق كلّ اعتبار. يعود إردوغان إلى واقعية ليست معروفة مدّة صلاحيتها الزمنية، بعدما أدرك أن الموقف الخليجي - المصري (وقبله السوري) صلبٌ وثابت في مواجهة حركات «الإخوان المسلمين» التي وَجدت في وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في تركيا، ظهيراً في محاولة تغيير خريطة المنطقة والأنظمة، إبّان ثورات «الربيع العربي». في المقابل، وبعدما انتظرت مصر انتهاء الانتخابات الرئاسية في تركيا، كان على السيسي، بعد إعادة انتخاب إردوغان، القبول بالأمر الواقع والمضيّ في توسيع المصالحة. وخلال الأعوام العشرة الأخيرة، شهدت علاقات البلدَين اختبارات مريرة كثيرة، لعلّ من أبرزها الوضع في ليبيا، حيث عملت تركيا، منذ إطاحة العقيد معمر القذافي، على محاولة تركيب نظام موالٍ لها بزعامة رئيس «المجلس الوطني» الليبي، مصطفى عبد الجليل، ونجحت في ذلك، لتُسدّد هدفاً كبيراً في مرمى مصر المنشغلة وقتذاك بالخلاف مع إثيوبيا حول قضيّة «سدّ النهضة». ومع هذا، تمكّنت القاهرة من وقْف تقدُّم أنقرة في ليبيا، ومنعها من السيطرة على النصف الشرقي بزعامة خليفة حفتر، تاركةً القسم الغربي لحكومة طرابلس المعترف بها من جانب الأمم المتحدة. لكن تركيا عادت وسدّدت ضربةً أخرى قويّة لمصر، عندما وقّعت اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، مبعثرةً مخطّطات «منتدى شرق المتوسط للغاز» الذي استُبعدت منه أنقرة، في مقابل نشوء تحالف ضمَّ كلّاً من مصر وإسرائيل واليونان وقبرص الجنوبية، وأيضاً توقيع اتّفاق عسكري مع حكومة فائز السراج قضى بدعم تركيا عسكرياً لليبيا، واستقدام وحدات عسكرية تركية للتدريب، والمشاركة بفعالية في المعارك العسكرية الداخلية بين الأطراف المتنازعة. وعلى رغم تشكيل حكومة «وحدة وطنية» لاحقاً في ليبيا، إلّا أن الانقسامات بقيت قائمة، واستمرّ التأثير التركي على حكومة طرابلس.
سيكون «الديموقراطي» و«الانقلابي» وجهاً لوجه، وستكون «المصلحة الوطنية العليا» فوق كلّ اعتبار


كثيرةٌ هي الملفّات المشتركة والمهمّة التي يتقاطع فيها البلدان، ويُنتظر أن يتناولها إردوغان والسيسي:
1- الملفّ الاقتصادي: لا يزال حجم التجارة بين البلدَين ينمو - على رغم كلّ الخلافات التي وقعت -، ويقارب العشرة مليارات دولار، ويميل قليلاً إلى مصلحة مصر، فيما تحتلّ السياحة فيه موقعاً مهمّاً (يعادل تقريباً حجم التجارة بين تركيا وإسرائيل). وتقدَّر الاستثمارات التركية في مصر الآن، بمليارَي دولار، فيما يُقدّر عدد الشركات التركية العاملة في هذا البلد بحوالي 500 شركة، منها 200 شركة نشطة على الأرض. وتصدّر مصر إلى تركيا الغاز الطبيعي المسال (32% من الصادرات)، والبلاستيك، ومنتجات كيميائية، وأجهزة كهربائية، بينما تستورد منها السيارات والشاحنات والحلى والحديد والإسفلت والفواكه المجفّفة وغيرها.
2- ملفّ «الإخوان المسلمين»، ولا سيما نشاطهم في الداخل التركي، حيث تريد مصر الوقف الكامل لكلّ أنشطتهم الإعلامية، ووقف التدخّل التركي في الشؤون الداخلية المصرية. ويبدو أن أنقرة باشرت بالفعل، منذ بعض الوقت، التضييق على نشاطاتهم على أراضيها، من دون أن يبلغ ذلك حدّ المنع النهائي.
3- ملفّ شرق المتوسط واستبعاد تركيا من «منتدى غاز شرق المتوسط» الذي تأسّس مطلع عام 2019، ومن خريطة تقاسم الأرباح والنفوذ، استخراجاً للغاز وتوزيعاً له عبر الخطوط. ولعلّ اتفاق ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا، شكّل العقبة الأخطر أمام تردّي العلاقات بين البلدَين. ولا يزال غير واضح كيف يمكن حلّ هذه المشكلة، وخصوصاً في ظلّ استمرار عمل المنتدى من دون تركيا.
4- واتصالاً بالملفّ المتقدّم، ستكون مسألة ترسيم الحدود بين تركيا ومصر إحدى الخطوات الشائكة، إذ تعتقد أنقرة أن ترسيم الحدود كما تقترح، سيعطي القاهرة مساحة بحرية أكبر من تلك التي أعطاها إيّاها اتفاق ترسيم الحدود بين مصر واليونان. وهنا، ستكون مصر في موقع حرج؛ إذ إن إعطاءها أولوية لليونان يعني أنها ستخسر ما كان بإمكان تركيا أن تعطيه إياها. وإذا قَبلت بالتصوّر التركي، فهذا يعني أنها ستعيد النظر في الترسيم مع أثينا، وما قد يسفر عنه ذلك من تداعيات على تحالفهما.
5- الملفّ الليبي: أتاح التدخّل التركي في هذا البلد منذ إطاحة القذافي، لأنقرة، هيمنةً للمرّة الأولى منذ الحرب العالمية الأولى، على بلد مهمّ جيوبوليتيكياً بالنسبة إلى مصر. والهيمنة الحالية العسكرية والاقتصادية، ولا سيما مع توقيع اتفاق التنقيب عن النفط في المياه الليبية (وقّعته تركيا مع حكومة طرابلس)، يجعل من ليبيا حديقة خلفية أقرب إلى تركيا منها إلى مصر، في ما يُعدّ انتكاسةً جيوبوليتيكية كبيرة لهذه الأخيرة.
6- الملفّ السوداني، حيث كانت لتركيا علاقات مهمّة مع الزعيم المخلوع عمر البشير، الذي منحها جزيرة «سواكن» على البحر الأحمر للاستثمار فيها «ثقافيّاً». وبعد خلع البشير، بدا كما لو أن تركيا خسرت موقعها. وفي جميع الأحوال، يمكن لِما تبقّى من نفوذ تركي في السودان أن يساهم مع مصر في حلّ الأزمة السودانية.
7- تنتظر مصر أن يكون لتركيا، بعد المصالحة، موقف إلى جانبها في ما يتعلّق بقضيّة «سدّ النهضة»، على الرغم من أن أنقرة تشعر بالتضامن مع أديس أبابا، كونهما تتشابهان في الموقع، إذ هما بلدا منبع، فيما مصر بلد مصبّ، مثلها مثل سوريا والعراق بالنسبة إلى نهرَي دجلة والفرات. لكن ربّما تبادر تركيا إلى القيام بدور وسيط في هذا الموضوع.
8- يتشارك البلدان في المسألة الفلسطينية: فتركيا حليف لحركة «حماس» التي لها ارتباطات واسعة مع مصر، فيما يمكن أنقرة والقاهرة أن تنسّقا الموقف بالنسبة إلى الوضع هناك، بما يخدم «الهدوء»، ولا سيما بعد إعادة تركيا علاقاتها مع الكيان الصهيوني. كذلك، تتقاطع مصر وتركيا عند مفترق العلاقة برئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، وبالتالي، يمكنهما أن تقوما بدور «الوسيط» بين غزة وإسرائيل وبين السلطة وإسرائيل.
9- من غير الممكن تصوّر ألّا تكون سوريا أحد ملفّات النقاش بين إردوغان والسيسي، لكن من الصعب رفع سقف التوقعات لِما يمكن أن تقوم به مصر بدور وسيط، وخصوصاً أنها لم تستطع أن تطوّر علاقات مختلفة عن بقية دول الخليج تجاه سوريا تجعل الثقة فيها من قِبَل دمشق أكبر من غيرها. كما أنه بعد عودة سوريا إلى «جامعة الدول العربية»، بات المتوقّع مبادرة عربية جماعية أو متعدّدة الأطراف على الأقلّ، وليست فردية، لحلّ الأزمة السورية. ولا تُغفل كذلك، هنا، الإملاءات الأميركية المتواصلة على العرب لمنع حلّ الأزمة السورية.
إزاء ذلك، تصف صحيفة «يني شفق» تركيا ومصر باللاعبَين الكبيرين في المنطقة، معتبرةً أن تعاونهما سيجعل منهما رابحَين في الوقت نفسه، وهو ما يجعل منهما تالياً مؤثّرَين حتى في أدوار عالمية، وليس فقط إقليمية. من جهته، يرى أحمد أويصال، رئيس مركز «أورسام» للدراسات الشرق أوسطية في تركيا، أن مصر وتركيا بلدان حسّاسان في المنطقة، وأن «العلاقات بينهما كانت تاريخيّاً مهمّة ويزيد من أهميّتها أن كليهما ينتميان إلى المذهب السنّي». ويضيف إنهما «يتشابهان حتى في الانقلابات العسكرية التي قامت فيهما، مع فارق أن العسكر في مصر جاؤوا إلى السلطة ولم يغادروها، بينما في تركيا كانوا يجيئون ويذهبون. وفيما كانت تركيا تطوّر ديموقراطيتها، كانت مصر عاجزة عن ذلك».