فجأة، وجد البريطانيون حكومتهم تتحدّث عن المملكة المتحدة «العالمية» لا الأوروبية، ما دامت الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس قد نفّذت «بريكست» وخرجت من الاتحاد الأوروبي. وفي مصر، أمست الهوية الفرعونية ملجأ للمحتجّين ضد عروبية جمال عبد الناصر. لا غرو، ما دامت الهوية تُصنع صناعة و«تلفّق تلفيقاً»، بانتقاء عناصر بعينها وطمس أخرى أو التهوين منها. وعليه، يصح السؤال عن الدوافع والخلفيات التي تقف وراء «القرار» السعودي بالإعلاء من شأن الهوية الخليجية دون سواها، و«تعميمها» على أقاليم المملكة الشاسعة والمتعددة الهويات. لقد أصبح السعودي في عسير ومكّة والرياض وحائل وتبوك وعرعر «خليجياً»، مثله مثل القطيفي والهفوفي والظهراني القاطنين على ضفاف الخليج. وكان ممكناً أن نسمّي هؤلاء «السعوديين» جميعاً، شاميين أو «هلال خصيبيين» أو حجازيين أو جزيريين، لو قرّر القصر السعودي رموزاً أخرى غير الهوية الخليجية للكيان المترامي الأطراف، المسمّى المملكة العربية السعودية، العنوان الذي يستحقّ نقاشاً. هذا، على رغم أن لشبه الجزيرة العربية هوية متمايزة عن الخليج، وأن بَدْو نجد وما جاورها، بحسب وزير البترول الأسبق علي النعيمي، «ينظرون بتعالٍ إلى المزارعين أو القرويين، وينفرون من كلّ ما له صلة بالبحر، بما في ذلك أكل السمك والمحار والغوص بحثاً عن اللؤلؤ».
بيد أن على السعوديين كافة تمجيد البحر ومنتجاته وهواياته ومهنه، ما دامت بلادهم أصبحت دولة خليجية بقرار ملكي فوقي، على رغم جهل نسبة لا يُستهان بها منهم أو استنكافهم من نمط حياة أبناء دول الخليج الأخرى وكل ما يرتكزون عليه في لقمة عيشهم. هذا النمط الذي تعرّض للاهتزاز في ثلاثينيات القرن الفائت، حين تضعضعت صناعة الغوص مع غزو اللؤلؤ الياباني المزروع للسوق العالمي، وبروز صناعة النفط بديلاً جامحاً، زادته اندفاعاً حاجة أساطيل الحلفاء إلى الطاقة في ذروة الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي قدّم للمشيخات الفقيرة، والتي ما زالت قيد الاستعمار، هدية من «الأرض»، وضعتها في قلب الحدث الدولي، وأنقذت أبناءها من شظف عيش عانوه طويلاً.
السواحل السعودية على الخليج (700 كيلومتر) ليست الأطول، مقارنة بحدود المملكة مع الأردن (744 كيلومتراً)، أو العراق (814 كيلومتراً)، أو الحد الجنوبي مع اليمن (1458 كيلومتراً)، فيما سواحلها على البحر الأحمر (1800 كيلومتر) تمثّل ضعف طول سواحلها على الخليج. وبينما يقطن الإقليمان الحجازيان عشرة ملايين نسمة، موزعين بين مكّة (قرابة ثمانية ملايين) والمدينة (نحو مليونين)، ويعيش في إقليم الرياض المُضخّم مساحة وسكاناً نحو ثمانية ملايين نسمة أخرى، يسكن في المنطقة الشرقية المحاذية للخليج، التي تضم الإحساء والقطيف والدمام والخبر ومدناً أخرى، عدد أقل من السكان: حوالي خمسة ملايين نسمة، بحسب إحصاءات 2022، لكنها (الشرقية) تنام على بحور النفط التي منحت السعودية قدراً كبيراً من «معناها» و«هويتها».
أصبح السعودي في عسير ومكّة والرياض وحائل وتبوك وعرعر «خليجياً»، مثله مثل القطيفي والهفوفي والظهراني القاطنين على ضفاف الخليج


لا أعرف المرة الأولى التي برز فيها مسمّى «خليجي»، ولا خلاف أنه اسم حديث جداً، وجميل. وأرى أن دراسة الجيوبوليتيك وتعقيدات التأسيس و«التوحيد» لشبه الجزيرة تقدّم إجابات واقعية بشأن السياسات السعودية، بما في ذلك وقوع قيادتها على خيار الخليج هويةً جامعة للتعدّد المشروع والمتوقع في شبه جزيرة العرب. كما من الأجدر دراسة بُعد الهوية في سياق الصراع على السلطة، والثروة، والتنافس الإقليمي، والتحديات الأمنية المحيطة بالملكيات حديثة النشأة، والصراع الدولي، وإلا فإن الاستنتاجات لن تصل إلى نهايات «علمية» ومحيطة بالمشهد، وكأن اختيار انتماء أو هوية دون غيرها مسألة مزاجية، أو اعتباطية، أو رومانسية، أو تتعلّق بمدى التلاقي في التاريخ والتراث ونمط العيش وحسب، فيما هي تتّصل أيضاً بتصور الحُكم لنفسه ودوره، والآخر، أي آخر.
لقد جرت حوادث استثنائية في القرن العشرين، أشعرت الكيانات الستة التي عرفت منذ 1981 بـ"مجلس التعاون الخليجي"، بالقلق من ناحية، وادعاء «الخصوصية» من ناحية أخرى، ودفعتها بقيادة السعودية الضخمة والمختلفة إلى إعلان الخليج «هوية» أساسية، بما يبرّر إنشاء تكتل أمني، أساساً، مغلق، متظلّل بحماية غربية. في حالة السعودية، أظنّ أن القلق الهوياتي وبدائله وخياراته، وما يؤدي إليه من تدافع وتنافس وصراع، تعود جذوره إلى سنوات طويلة خلت، ومن أبرز محطاته: تأسيس المملكة السورية (1918 - 1920) والمملكة العراقية (1921 - 1958)، والمملكة الأردنية (1921)، وقد حكمها في الحالات الثلاث أنجال المنافس التقليدي للملك المؤسس عبد العزيز آل سعود: ملك الحجاز الشريف حسين، الذي هزمه جيش «إخوان من طاع الله»، البدوي، عام 1920. لقد أسّس ذلك، إلى جانب تعقيدات دولية أخرى، لحواجز لا يصح التقليل من وقعها بين الرياض والشام، وكيانات الأخير الثلاثة، وصعّب على هذه الكيانات إنشاء تجمّع يضمها في ناد مغلق، يعلي من شأن هوية مشتركة. ثم إن الاطاحة بالمَلِكَين المنافسَين في الجوار الشامي، وتحوّل المملكتين السورية والعراقية إلى النمط الجمهوري، لم يدفع البتة إلى بزوغ رابطة سياسية، تسعى الرياض الصاعدة والمندفعة إلى قيادتها.
لقد كرّس ذلك قلق آل سعود، ودفعهم إلى تفادي الذهاب نحو تبنّي هوية شامية أو «هلال خصيبية»، وتم الاكتفاء بالجامعة العربية إطاراً و«هوية»، لكن مفهوم العروبة هنا مختلف ربما عن عروبات الشام والعراق، ومصر، بحمولاتها السياسية المناهضة للاستعمار والمناهضة للغرب، الحليف للرياض، والتي دفعت الملك فيصل إلى تأسيس "منظمة التعاون الإسلامي"، علماً أن هذا الإسلام بحاجة هو الآخر إلى تعريف باعتباره هوية للسعوديين. تضاف إلى ذلك عوائق أخرى لا يمكن نكرانها، تتّصل بمركزية بغداد ودمشق (والقاهرة) وعراقتها في التاريخ العربي والإسلامي المديد، ومساهمتها في قيادة مرحلة «النهضة العربية» مطلع القرن العشرين، وامكاناتها السكانية، وتقدمها العلمي والتنموي النسبي. وهي عوامل تزيد من قدرتها على منافسة الرياض، وربما استباقها في السُّلّم التنموي والسياسي والتأثير الإقليمي.
من وجهة نظر الرياض، فإن ذلك يضعها في موقع تابع أو ندّي في أحسن الأحوال، ويصعّب عليها ابتلاع دول «كبرى» أو قيادتها، مقارنة بدول الخليج الصغيرة الأخرى حديثة النشأة، وإن كانت مصر في العقود الأخيرة أصبحت تناغي سياسة الرياض.