تونس | على عجل، ومن دون مقدّمات باستثناء بعض الأحاديث التي دارت في الكواليس قبيل أسابيع، أقدم الرئيس التونسي، قيس سعيد، على إعفاء رئيسة حكومته، نجلاء بودن، وتعويضها بأحمد الحشاني. وكعادته، انتظر سعيد منتصف الليل لينزل بمفاجأته الثقيلة، عبر صفحة الرئاسة على «فايسبوك» التي نشرت فيديو يظهر أداء الحشاني اليمين الدستورية. وفتحت هذه الخطوة، على غرار مثيلاتها، المجال للتأويلات المعارِضة والمؤيّدة، والتي لا تستند إلى أيّ معطى موثوق في ظلّ مواصلة سعيد انتهاج سياسة سدّ المنافذ أمام الصحافة. ولم تخضع حكومة بودن لتقييم سياسي، ومثلما عُيّنت في صمت ووسط ذهول المتابعين من ضعف الرئيسة المعيَّنة تاريخاً وشخصية، غادرت أيضاً في صمت ومن دون بصمة تُذكر. أما خلَفها، فلا يكاد يختلف عنها في شيء، بل يشترك معها في الغاية التي اختيرا لأجلها، وهي الاضطلاع بدور التسيير فقط والسمع والطاعة المطلقيْن لسعيد. وبصرف النظر عن رداءة أداء حكومات العشرية الفارطة، فلطالما شهدت الساحة السياسية حوارات عميقة حول تقييم ذلك الأداء، لم تكُن عامة المواطنين بعيدة منها، وهو الأمر الذي كان ينعكس لاحقاً في نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وما تجربة رؤساء الحكومات السابقين أمثال حمادي الجبالي، ومهدي جمعة، ويوسف الشاهد، وإخفاقهم الذريع في الانتخابات الرئاسية، إلا مثالٌ حيّ على العقاب الشعبي لهم على فشلهم في إدارة الحكومات التي ترأّسوها.
في المقابل، لم تحظَ حكومة بودن بنقاش على المستوى الشعبي، إذ عمَل سعيد على أن لا تتجاوز حدود ظلّه، إلى حدّ أنه يُذكر منها اليوم سوى مرورها برأس محنيّ أمام الرئيس. وبينما كانت الحكومات السابقة حكومات إطفاء حرائق، عملت على تسكين بؤر التوتر في الملفات الاجتماعية الساخنة، لم تنل حكومة بودن حتى هذا اللقب، بعدما بقيت كلّ الملفات التي واجهتها مشتعلة من دون حلول. وعلى سبيل المثال، لا يزال التونسيون يشكون ندرة المواد الأساسية، فيما لا تزال المالية العمومية في وضع حرج في ظل غياب مصادر اقتراض خارجية، واستحالة فرض مزيد من الضرائب مخافة قيام انتفاضة اجتماعية جديدة نتيجة انهيار القدرة الشرائية. ولم يشكّل ذلك المردود الضعيف لبودن مصدر إزعاج للرئيس، بل على العكس تماماً، فهو جسّد التصور الذي صاغه في دستوره الجديد، من خلال «كومبارسات» ضعيفة يحجبها بشخصه - إن لم يلغها تماماً – لكي لا تترسّخ في ذهن العامة.
لم يتّضح ما إذا كان أعضاء الحكومة مُقالين أم باقين على رأس وزاراتهم


ومن المنطلق نفسه، برزت شخصية أحمد الحشاني، خرّيج القانون من دفعة سعيد والموظف الحكومي في البنك المركزي التونسي، والذي لا يجذب في سيرته الذاتية سوى مساره المهني المليء بالترقيات؛ إذ لا اهتمامات سياسية لديه ولا آراء ولا أفكار ولا تصورات. وحتى المعارضة لم تجد خلال بحثها في تاريخ رئيس الحكومة الجديد، ما يدعم موقفها المبدئي برفض كل ما يأتي من سعيد، لتقنع الجماهير برفضها له، سوى بعض منشورات على صفحات «فايسبوك» لم يتم التأكّد من صحة صدورها عنه. مع ذلك، ذهبت قيادات حزبية إلى الحديث عن أن الرجل تحوم حوله شبهات فساد في ملف مرتبط بالبنك المركزي. وبرأس محني أيضاً، ظهر الحشاني في فيديو أداء القسم أمام الرئيس، حيث لم ينبس ببنت شفة واكتفى بإيماءات الموافقة أمام ما كان يردّده سعيد من كلمات مكرّرة حول مصلحة التونسيين.
على أن خطوة تغيير رئيسة الحكومة، لم يرافقها أي حديث عمّا إذا كان أعضاؤها مُقالين أيضاً أم باقين على رأس وزاراتهم، على رغم أن دستور سعيد يقول إن إعفاء الرئيس يعني حلّ حكومته تلقائياً. كذلك، لم تتضح بعد حقيقة ما تواتر من أحاديث في أعقاب زيارة رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، برفقة المفوّضة الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، الشهر الماضي، إلى تونس، عن صفقة سياسية مع المعارضة لإشراكها في الحكم والإفراج عن المعتقلين السياسيين، بما يرفع الحرج عن المفوّضة الأوروبية في تعاملها مع نظام سعيد ودعمه مادياً وسياسياً من جهة، ويقدم للأخير نصراً بانتهاء المقاطعة الدولية له.
في كلّ الأحوال، أُنهِكت المعارضة التونسية خلال سنتين من محاولة الضغط على سعيد من دون فائدة، فلا الأخير قبل بتقديم تنازلات سياسية، ولا اقتنع التونسيون بالكفّ عن حالة التنصل من الشأن العام وتطليق السياسة. وفي خضمّ ذلك، لا نقاش حقيقياً حول ما يُطلب من هذه الحكومة وما يُنتظر منها، ولا حول الاستعدادات للمحطة الانتخابية المرتقبة بعد سنة، وسط تسليم ضمني بعدم إقامة الانتخابات أو تأجيلها واستمرار سعيد على رأس البلاد، سواء بالوسائل الديمقراطية أو من دونها.