بغداد | أثارت أزمة الحدود العراقية - الكويتية جدلاً واسعاً داخل الأوساط السياسية والشعبية أخيراً، ما حمل البرلمان على تشكيل لجنة تحقيقية عاجلة في شأن ترسيم الحدود بين الدولتَين، إلى جانب استعداده لعقد جلسة طارئة واستضافة عدد من المسؤولين لمناقشة هذه القضية الخلافية، والتي يعود عمرها إلى عقود طويلة. وتتّهم أطراف سياسية عراقية، الحكومة الحالية، بالتنازل للكويت عن ناحية أم قصر الحدودية، فيما يحذر نواب من مغبّة الصمت الرسمي حيال الجدل المثار عن ترسيم الحدود البرية والبحرية. وأجرى وزير خارجية الكويت، سالم عبد الله الجابر الصباح، زيارة إلى بغداد قبل أيام، مُعلناً في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره العراقي، فؤاد حسين، وبحضور محافظ البصرة، أسعد العيداني، أن الوعود التي أطلقها الأخير بشأن إزالة منازل عراقيين في أم قصر وتسليم مناطقها للكويت، تمّ تنفيذها، ما أثار حفيظة الأوساط الشعبية والسياسية بشكل غير مسبوق. وفي تعليقه على هذه الضجة، اعتبر العيداني أن قضية أم قصر استُغلّت سياسياً، وباتت من ضمن الدعاية الانتخابية المُبكرة، متّهماً نواباً بأنهم يشوّهون الحقيقة حول بيع العراق أراضٍ تابعة له للكويت، لافتاً إلى أن «العراق والكويت اتفقا في عام 2013 على بناء منازل خاصة للعوائل العراقية الساكنة على الحدود».
وفي الاتجاه نفسه، أكدت وزارة الخارجية العراقية أن الحكومة ملتزمة بقرار مجلس الأمن الدولي الخاص بترسيم الحدود مع الدولة الجارة، نافيةً التفريط بسيادة العراق البرية أو البحرية، ولا سيما في ما يتعلّق بمدينة أم قصر. وجزم المتحدث باسم الحكومة، باسم العوادي، بدوره، في بيان، أن «ترسيم الحدود أمر محسوم منذ عام 1994»، وأنه «ليس هناك من تغيير في الإجراءات»، مُعتبراً أن «الأزمة التي أثيرت أخيراً تُستخدم للابتزاز السياسي». ومع ذلك، انتشرت في محافظات وسط وجنوب البلاد، وخصوصاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دعوات إلى احتجاجات شعبية واسعة ضدّ «قرار الترسيم» تحت وسم «أم قصر عراقية»، فيما نفت قيادة عمليات البصرة اندلاع تظاهرات داخل المحافظة للتنديد بالصمت الحكومي.
وحدّدت الأمم المتحدة، في عام 1993، الحدود البحرية والبرّية بين البلدين، إثر غزو العراق للكويت، في عام 1990. وكان مجلس الأمن الدولي قد رسم آخر علامة للحدود المشتركة وفق قراره المرقم 833 في 27 أيار 1993، وهي تقع في منتصف خور عبد الله. وعادت العلاقات إلى مجاريها في عام 2004 على مستوى قائم بالأعمال، ثمّ عيّنت الكويت أول سفير لها في بغداد عام 2008، وفي عام 2010، سمّى العراق سفيراً له لدى دولة الكويت. لكن الخلاف الحدودي بقي قائماً، منعكساً بين وقت وآخر حوادث من مثل مصادرة خفر السواحل الكويتي مراكب صيادين عراقيين، لدخولهم بشكل غير قانوني في المياه الإقليمية الكويتية.
حدّدت الأمم المتحدة، في عام 1993، الحدود البحرية والبرّية بين البلدين


وبحلول عام 2021، دفعت حكومة بغداد السابقة، بقيادة مصطفى الكاظمي، كامل التعويضات المترتبة على العراق، أي أكثر من 52 مليار دولار، بعد أكثر من 30 عاماً على غزو الكويت. أمّا الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، فتُكثّف من جهودها لتصفير الخلافات، من خلال مناقشات مستفيضة، آخرها ستكون في 14 آب الجاري في العاصمة العراقية، لبحث مسألة الحدود البحرية الخلافية العالقة بين الجانبين، من قِبَل لجان فنية عُليا.
إلّا أن برلمانيين ومراقبين للشأن العراقي يرون أن حلّ الملف الحدودي ليس سهلاً، وهو لم يتحقّق من خلال تشكيل لجان غير متخصّصة. وفي هذا الإطار، تلفت النائبة عن محافظة البصرة، وعضو لجنة النقل والاتصالات النيابية، زهرة البجاري، إلى أن «قضية ترسيم الحدود وتنظيم الملاحة قديمة، وعمرها من عمر اتفاقية صفوان المشؤومة»، معتبرة أن هذه الأخيرة «جعلت العراق يتنازل عن جزء من أراضيه من أم قصر، وكذلك جزء من مياهه الإقليمية في خور عبد الله، لكن هناك أوامر جديدة بترسيم الحدود وتنظيم الملاحة». وتعتقد البجاري أن «من واجب اللجان الفنية أن تقدّم توصياتها إلى وزارة الخارجية العراقية لترفعها إلى رئيس مجلس الوزراء لغرض المصادقة عليها، ووضعها في الأمم المتحدة من أجل تثبيت حقوق العراق في هذه القضية».
من جانبه، يرى رئيس تجمّع «الفاو زاخو»، عامر عبد الجبار، أن «لدى العراق حلولاً كثيرة يستطيع من خلالها معالجة القضية مع الجانب الكويتي، ولا سيما التي تخصّ الاقتصاد والاستثمار والنفط». ويدعو عبد الجبار إلى أن «تشكّل الحكومة فريق عمل وطني يفاوض في بغداد حصراً، لغرض إثبات حقوقنا»، لافتاً إلى «أننا نخاطب كلّ الجهات، بما فيها قيادات الإطار التنسيقي المشكّلة للحكومة الحالية، بذلك»، منبّهاً إلى أن «الشعب العراقي متأهّب ومتحمّس للنزول إلى الشارع وهذا قد يفضي إلى أحداث خطيرة في البلاد». ويلفت عبد الجبار إلى أن «اللجان التي تمّ تشكيلها في كلّ الدورات البرلمانية السابقة غير متخصّصة، وبالتالي لم تعرف أحقية هذه الأراضي وكيفية الحفاظ عليها».
لكن النائب سعود الساعدي يؤكد نيّة البرلمان تشكيل تشكيل لجنة تحقيقية مؤلّفة من لجان متخصّصة عدّة بشأن ما يُحكى عن تجاوز الكويت على الإطلالة البحرية العراقية، مشيراً إلى «(أنّنا) قدّمنا طعناً في المحكمة الاتحادية بخصوص الأمرَين الديوانيَين 110 و 123 الخاصَين بترسيم الحدود، وكذلك طعناً في اتفاقية خور عبد الله وكلّ ما من شأنه تضييع حق العراق التاريخي في هذه القناة، أو محاصرته أو مصادرة إطلالته البحرية». ويذكّر الساعدي بتدخل مجلس الأمن في ترسيم الحدود على الرغم من كونه ليس من اختصاصاته، مضيفاً أن «الظروف الدولية آنذاك فرضت أمراً واقعاً رغماً عن العراق، فيه تجاوز لحقوق الأخير البحرية والبرية»، مشدّداً على ضرورة «إنهاء هذا الخداع وهذا التجاوز التاريخي على الحقوق السيادية العراقية».
بدورها، تلفت عضو لجنة النزاهة النيابية، عالية نصيف، إلى أن «هناك جهلاً قانونياً كبيراً جداً لدى المستشارين المعنيين بهذه القضية»، معتبرةً أن «أن ما يحصل اليوم ليس زوبعة إعلامية من فراغ كما يدّعي محافظ البصرة». وتتّهم نصيف الأخير بأنه «استلم 42 مليون دولار كتعويض لأهالي المنطقة، لغرض خروجهم وتسليم الكويت هذه المنطقة المحاذية لأم قصر، والتي هي جزء من أم قصر وهي منطقة عراقية»، داعية الحكومة إلى «اتخاذ موقف شريف لأن هذه سرقة للعراق».
في المقابل، يرفض المحلل السياسي الكويتي، عايد المناع، الحديث عن تعدّي الكويت على الأراضي العراقية، مدافعاً بأن «هناك قراراً دولياً بشأن ترسيم الحدود البرية والبحرية، ولا سيما في أم قصر، ويُلزم البلدين تطبيقه. كما ثمّة اتفاقيات ثنائية، وخصوصاً اتفاق 1963 الذي بُني على رسالة نوري سعيد في عام 1932، وبالتالي قامت الكويت بإزالة بعض المنازل الموجودة في الجانب الكويتي». ويعتبر المناع أن «بعض العراقيين لا يريدون علاقات طيبة مع الكويت»، وأن «بعض الأطراف بدأت تستخدم الملف سياسياً أو لغرض إثارة الأحقاد ضد الكويتيين». ويضيف أن «ما يحدث حالياً هو مقصود لغرض العودة بالعلاقات العراقية - الكويتية بعدما أصبحت جيدة إلى المربع الأول».