رام الله | بعد فشلها في إنهاء حالة المقاومة ووقف عملياتها في الضفة الغربية المحتلّة، بدأت إسرائيل البحث عن مسار آخر لاسترجاع قوة ردعها المتآكلة، محاوِلةً تكبير «ثمن» العمليات الفدائية، بحيث لا يقتصر على الضفة وحدها، خصوصاً في ظلّ تقديرات أمنية إسرائيلية بأن ما يجري في هذه الأخيرة تقف خلفه حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، بالتنسيق مع «حزب الله» وإيران، وهو ما قرأته المقاومة الفلسطينية جيداً، محذّرةً قادة الاحتلال من أنّه سيتمّ الردّ على أيّ عدوان «بشكل غير مسبوق». وإذ تسود توقّعات بأن يعمد العدو إلى محاولة استهداف قادة من «حماس» وسائر حركات المقاومة، سواء في غزة أو في الخارج، فهو بدأ ردّه على عملية الخليل التي تبنّتها حركة «حماس» بعدما سارع الاحتلال إلى اتّهام إيران بالوقوف خلفها وخلف مسلسل العمليات الفدائية بالمجمل، بتكثيف عمليات اقتحام المدن والبلدات الفلسطينية، وحملات اعتقال الفلسطينيين، في سيناريو بات معهوداً مع كلّ تصعيد في هجمات المقاومة.وبين يومَي الثلاثاء والأربعاء فقط، اعتقلت قوات الاحتلال أكثر من 70 فلسطينياً في الضفة، معظمهم من عناصر وقيادات حركتَي «حماس» «والجهاد». كما اقتحمت منزلَي منفّذَي عملية الخليل، وكلاهما من عائلة الشنتير، في خلة مناع في مدينة الخليل، وشرعت في أخذ قياساتهما، تمهيداً لبدء عملية هدمهما. ودائماً ما يشنّ العدو حملات اعتقالات عشوائية في صفوف الحركتين، قبل أن يُصدر بحق المعتقلين أحكاماً بالاعتقال الإداري. ومن أبرز المعتقلين هذه المرّة، في أعقاب مواجهات مسلّحة في أكثر من منطقة، إسلام أبو عون، نجل الأسير والقيادي في «حماس» نزيه أبو عون، والأسير المحرَّر والقيادي في «الجهاد»، ماهر الأخرس، والقيادي الآخر في الحركة صادق أبو الخير، بالإضافة إلى أسرى محرَّرين من الحركتَين.
وتزامنت هذه الاعتقالات مع إعطاء «الكابينت» رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه، يوآف غالانت، الضوء الأخضر للردّ على عملية الخليل. كما تزامنت مع استمرار التحريض العالي المستوى من قِبَل قادة المستوطنين واليمين المتطرف، ومنهم رئيس «مجلس مستوطنات شمال الضفة»، يوسي داغان، الذي طالب حكومة الاحتلال بتنفيذ عملية عسكرية «حقيقية وجادّة ومستمرّة في الضفة»، في حين لم يستبعد مسؤول عسكري كبير في جيش العدو إطلاق الأخير «عملية واسعة النطاق لجمع الأسلحة والذخيرة واعتقال المطلوبين في وقت واحد في الضفة». والواقع أن الاعتقالات الأخيرة أتت على شكل حملة عسكرية شملت مختلف أنحاء الضفة، مستهدفةً بشكل رئيس الأسرى المحرَّرين الذين لديهم سجلّات نضالية وملفّات لدى مخابرات الاحتلال. وفي العادة، يشكّل اعتقال هؤلاء «إجراءً احترازياً»، يمهّد، في أحيان كثيرة، لعدوان عسكري أو تصعيد ينوي جيش العدو القيام به، ويتخوّف من أن يلعبوا دوراً كبيراً في مقاومته، نظراً إلى قدرتهم على التأثير في الشارع وتحريضه.

السيناريوات المحتملة
وإذ رفعت حكومة الاحتلال من سقف تهديداتها للمقاومين «ومَن أرسلوهم»، موكلةً إلى نتنياهو وغالانت مهمّة متابعة الإجراءات المضادّة وتنفيذها، في ما قد يصل إلى تكرار ما حدث في العدوان الأخير على قطاع غزة والذي بدأ باغتيال قادة من «سرايا القدس» - الجناح العسكري لـ«الجهاد» -، أو في العدوان الواسع على مخيم جنين الشهر الماضي، فإن السيناريوات المحتملة للمرحلة المقبلة تبدو محصورة في ثلاثة: الأوّل، تنفيذ عملية عسكرية واسعة في الضفة لجمع الأسلحة واعتقال المقاومين، وهو ما يتطلّب استنفار عدد كبير من القوات الإسرائيلية، من دون أن يضمن، في الوقت عينه، تحقيق النتائج المرجوّة، على غرار ما جرى في جنين أخيراً؛ والثاني، شنّ عدوان عسكري على غزة يبدأ بضربة قوية تستهدف المقاومة أو قيادتها، على شاكلة عدوان أيار الماضي، بما قد يؤدّي إلى الانجرار نحو مواجهة مفتوحة؛ والثالث، تنفيذ عملية اغتيال خارج فلسطين، لا تتبنّاها إسرائيل، ولكن تبقى نتائجها، شأنها شأن الاحتمالات السابقة، «غير مضمونة»، فضلاً عن أنها قد تقود إلى مواجهة كبرى، ولا سيما إذا اتُّخذ قرار تنفيذ العملية على الأراضي اللبنانية مثلاً، حيث تعهّد «حزب الله» بالردّ على أيّ اغتيال يقع في لبنان.
تبدو المقاومة الفلسطينية أكثر جهوزية لمواجهة أيّ ردّ إسرائيلي


وفي مقابل تلك الخيارات، تبدو المقاومة الفلسطينية أكثر جهوزية لمواجهة أيّ ردّ إسرائيلي، وهو ما يفسّر تبنّيها، مراراً، العمليات الفدائية في الضفة، كعمليتَي الخليل و«عيلي» وغيرهما. وممّا يدلّ على ذلك أيضاً، بعثها برسائل عملياتية مهمّة من قطاع غزة، شملت إجراءها مناورات استعرضت فيها قدرات طائراتها المُسيرة، وصواريخها البعيدة المدى، وسط تأكيدها أنها لن تسمح للعدو، في حال بدء أيّ هجوم، بإنهائه بالطريقة التي يريدها، بل ستعمد إلى تحويله إلى فرصة لمضاعفة أزمته الداخلية. كما أن تعهّد المقاومة، في وقت سابق، بالردّ على عمليات القتل والاغتيال لم يكن ذراً للرماد في العيون، بل يستند إلى ما تملكه من إمكانات، وإلى حقيقة أنها لم تستنفد جميع خياراتها بعد، فيما السيناريوات الإسرائيلية تبدو جميعها مستهلكة، بعد فشل تكرار الاعتقالات والاغتيالات والاقتحامات والعقوبات الجماعية، في وضع حدّ للمقاومة. وفي أحدث فصول تلك التعهّدات، أكّدت المقاومة، وفق ما نقلته «الأخبار» عن مصادرها، أنّ ردّها على أيّ اغتيال «سيكون أكبر ممّا يتوقّعه الاحتلال، الذي سيتفاجأ بطريقة الردّ وحجمه»، منبّهةً إلى أن «مثل هذه الخطوة قد تؤدّي إلى تصعيد كبير، سيطاول مختلف الجبهات التي تستطيع المقاومة العمل عليها». وفي الاتجاه نفسه، أكّد القيادي في «حماس»، ياسين ربيع، في حديث إذاعي، «أننا سنرد على أيّ اعتداء في أي مكان، علماً أنّ لدينا القدرة الكافية على إيلام الاحتلال في كل نقطة من أرضنا المحتلة».
وكان انصبّ التحريض الإسرائيلي، عقب عملية الخليل، على إيران وحركة «حماس» بشكل خاص، وسط تهديدات حتى باستهداف الحركة انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. وفي هذا الإطار، ذكرت «القناة 12» العبرية، أمس، أن «حماس» وإيران تقفان خلف موجة العمليات الدامية التي تجتاح الضفة. وقال المراسل العسكري للقناة، نير دفوري، إنّ «(حماس) وإيران هما من يوجّه منفّذي العمليات ضدّ جنود الجيش والمستوطنين»، مضيفاً: «من المحتمل ألّا تكون ردة الفعل في الضفة، بل في أماكن أخرى، حتى لو على حساب الدخول في جولة تصعيد في ساحة خارج الضفة». من جهته، قال المراسل العسكري لصحيفة «معاريف» العبرية، تال ليف رام، إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تلمّح إلى أن حركة «حماس» تقود جهوداً لإشعال الضفة والدفع إلى تنفيذ المزيد من العمليات، مشيراً إلى أنّه «من الممكن، بالتالي، توجيه ضربة تضرّ بمقدرات التنظيم داخل قطاع غزة أو لبنان». وفي الاتجاه نفسه، أوردت «القناة 13» العبرية أن غالانت يسعى إلى «تدفيع (حماس) التي تغمر الضفة بالسلاح»، ثمناً يتعلّق بشكل أساسي بمقرّ الحركة الموجود في لبنان، «والذي يوجّه الخلايا في الضفة».
يأتي هذا في وقت يبدو فيه واضحاً أن عملية الخليل تجاوزت «الخط الأحمر» لدى الاحتلال، وسط تخوّف الأخير من أن تعطي العملية دفعة قوية لعمليات المقاومة، نظراً إلى أن مدينة الخليل تُعدّ مركز قوة مهماً لحركة «حماس»، وتحيط بها المئات من الأهداف العسكرية والاستيطانية التي يمكن ضربها، إضافة الى انتشار السلاح فيها بشكل يفوق أيّ منطقة أخرى في الضفة. كما أن الهواجس الإسرائيلية تأخذ في الاعتبار أن التصعيد في الخليل قد يؤثر على الأراضي المحتلّة كافة، على غرار ما حصل عام 2014، حين جرى اختطاف 3 مستوطنين في الخليل، ما أدّى إلى اشتعال الضفة بكاملها، وشنّ عدوان هو الأطول من نوعه على غزة.