تسارعت في السنوات الأخيرة حركة الإنتاج الروائي للأسرى الفلسطينيين، حتى باتت أسماء أسرى مؤلفين تزيّن أغلفة نتاجاتهم الصادرة عن دور نشر عربية كـ«الآداب» و«الفارابي» و«فضاءات»، أو دور نشر فلسطينية كـ«طباق» و«المكتبة الشعبية»، فيما زاد الاهتمام الصحافي بنتاجات الأسرى من الروايات، فكتب الكثير من المقالات في الصحف والمواقع على الشبكة العنكبوتية. إنّ أسماء مثل كميل أبو حنيش، وباسم خندقجي، ووليد دقة، وسائد سلامة، وعصمت منصور، وغيرهم، باتت تحتل مكانتها في قائمة الروائيين الفلسطينيين بعدما أثبتت حضورها ونالت تشجيع النقّاد. فثلاثية وليد، و«مسك الكفاية» لخندقجي، و«السلك» لمنصور، و«الجبهة السابعة» لأبو حنيش، هذه الأعمال الأدبية وغيرها من إنتاجات الأسرى، باتت روايات معروفة على نطاق واسع في فلسطين والعالم العربي.هذه الظاهرة ليست جديدة بالمناسبة، لمن يتابع عن كثب واقع الإنتاجين الثقافي والأدبي، والروائي تحديداً، للأسرى الفلسطينيين، إذ ومن اللحظة التي امتلك فيها الأسرى أدوات الكتابة، التي دفعوا ثمن الحصول عليها تضحيات لسنين قبل أن ينتزعوها من السجان، لم يتوقف قلم الأسرى عن الإنتاجَين الثقافي والأدبي، وقد نُشرت دراسات عدّة حول ذلك الإنتاج وتشعباته، سواء كان الإنتاج رواية أو شعراً أو نصوصاً سياسية أو تذكارات وسيراً ذاتية أو توثيقاً لنضالات الأسرى.
لقد ناضل الأسرى الفلسطينييون في بداية تشكّل حركتهم الأسيرة نهاية ستينيات القرن الماضي، لانتزاع حقهم بالورقة والقلم اللذين كانا ممنوعين. كانت إدارة المعتقل تعطي الغرفة التي تتسع أحياناً لخمسين معتقلاً، قلماً واحداً وأوراقاً مروّسة بشارة الصليب الأحمر لكتابة رسائل للعائلة كل بضعة أشهر مرة، هذه كانت أدوات الكتابة، وهي حصراً لكتابة الرسائل للعائلة: فلا أوراق ولا دفاتر ولا أقلام ولا طاولة للكتابة ولا طرق شرعية لإخراج نتاجات الأسرى. كل ذلك تطلّب نضالات جدية، عاشها كاتب هذه السطور بتفاصيلها منذ أواسط السبعينيات، لكي يتسنّى للأسير الشروع بالكتابة، فمهما بلغ حجم التحدي - والأسرى لا تنقصهم إرادة التحدي، والرغبة الجارفة في التعبير عن الذات كتابة - ووسائل التحايل، والأسرى خبراء في هذا، إلا أن الأمر بالنهاية يتطلب ورقة وقلماً ودونهما يصعب الحديث عن الكتابة من أساسه.
لذلك، ينبغي بداية التأكيد أن ما نشهده اليوم، وبحق، من حالة نهوض في الإنتاج الروائي، لم تكن مقطوعة الجذور عمّا سبقها، بل يمكن القول بثقة إنها تتويج لنضال طويل، بدأ منذ عام 1967 عام احتلال كامل فلسطين، ليتوّج اليوم بكوكبة من الروائيين الذين ينتجون بغزارة. ويمكن اعتبار الأمر بالمفاجئ بعض الشيء، لكن ستنتفي المفاجأة إذا ما أخذنا الحقيقة التالية بعين الاعتبار: لقد حققت الحركة الأسيرة عبر تنظيماتها وكادراتها وقياداتها تراكماً وخبرة، تنتقل من جيل إلى جيل في الحركة الأسيرة، وما دعم هذا هو استمرار اعتقال بعض الأسرى لعشرات السنين، الأمر الذي وفّر نقل تلك الخبرة، وكذلك إعادة اعتقال الجيل الأقدم، من جديد، لتعود تجربته المكتسبة سابقاً للأسرى من جديد.
إنّه تتويج لنضال طويل، بدأ منذ عام 1967 عام احتلال كامل فلسطين، ليتوّج اليوم بكوكبة من الروائيين الذين ينتجون بغزارة


فما العوامل الكامنة خلف هذا النهوض، وخاصة في ظل التراجع المعروف في البنى الثقافية والتنظيمية، وحتى في العلاقات الوطنية داخل الأسر بعد الولوج إلى مرحلة اتفاقية أوسلو وتداعياتها السياسية والاقتصادية والمفاهيمية؟
أولاً: يبدو أن تناقضاً منطقياً قائم بين الحديث عن التراجع في الحركة الأسيرة والنهوض في الإنتاج الروائي، لكنه تناقض شكلاني سرعان ما ينتفي باستعراض تداعيات ذلك التراجع على الحياة الثقافية. إنّ التراجع كما يبدو، وعبر ما يتوفر من معلومات، يتجسّد تحديداً في حقل العمل الثقافي التنظيمي التعبوي المعروف تاريخياً لدى تنظيمات الحركة الأسيرة:
الجلسات الثقافية المقرّة تنظيمياً كبرامج، وإصدار النشرات والمجلات الدورية، والحث على المطالعة الذاتية، ودورات التثقيف الكادري، والمسابقات الثقافية وغيرها من الفعاليات.
واضح أن هذه المظاهر تراجعت، وإن لم تكن عند كل التنظيمات بالمستوى ذاته. فتراجعها كبير لدى تنظيم حركة «فتح» مثلاً، فيما هو قليل لدى منظمة فرع «الجبهة الشعبية» في الأسر. ربما يكون هذا التراجع قد ترك حيّزاً ما للأفراد للتعبير عن ذواتهم أدبياً، بعدما كان التعبير أكثر له طابع جماعي، عبر الانخراط بالعمل الثقافي الجمعي أكثر من الانخراط به كأفراد. أقول ربما كاجتهاد شخصي لا يرقى إلى مستوى الموثوقية العلمية للبحث الذي لا تدّعيه هذه المقالة على أية حال.
ثانياً: إذا كان من المسلّم به أن مرحلة «أوسلو» ألحقت ضرراً بالغاً بالحركة الأسيرة، كما أكدنا مظاهره في البند أعلاه، وتحديداً على صعيد العلاقات الوطنية، والانحياز للهمّ العام، والثقة بالنضال والمستقبل، ووحدة النضالات اليومية، وخاصة الإضرابات عن الطعام، والنشاط الثقافي والتنظيمي والتعبوي، فإنه استثار لدى حفنة من الأسرى ما نعتقده واجب النضال على الجبهة الثقافية بعد الضعف الذي اعترى الجبهة السياسية للأسرى ونضالاتهم الموحدة. ونعني تحديداً الانهماك في الصراع حول الرواية، والذي نراه في نتاجات الأسرى حيث التعبير الأبرز عن دورهم في تدعيم الرواية الوطنية في مواجهة الرواية الصهيونية. فكل النتاجات الروائية تصب هنا تحديداً: تدعيم الرواية الوطنية في مواجهة الرواية الصهيونية، وهذا يسجل للأسرى بكل ثقة، ويتفق مع ما حذّر منه الرفيق الراحل جورج حبش حين أكد بعد الرحيل عن بيروت، أن القتال على الجبهة الثقافية وعدم خسارتها هو الأهم حتى مع خسارتنا للجبهة السياسية والعسكرية.
ثالثاً: كملاحظة مباشرة وسريعة، فإن الخلفية الأكاديمية للأسرى، ربما هي الأخرى كانت عاملاً محفّزاً على التأليف، وخاصة أننا نشهد تزايداً في أعداد طلبة وخريجي الجامعات بين الأسرى، وكذلك انخراط العديد من الأسرى في برامج الدراسة الأكاديمية، سواء في الجامعات الإسرائيلية عبر نظام المراسلة، أو في جامعة «هداريم» كما جرى تسميتها، والتي يشرف عليها الأسرى بترتيبات مع جامعة القدس المفتوحة، وتمنح درجة الماجستير، فحفّز كل هذا الانهماك بالهمّ الثقافي والأكاديمي، ما أثر بالتأكيد على الإنتاج الثقافي والمعرفي لدى الأسرى.
رابعاً: لا شك لديّ بأن سياسة دعم طباعة ونشر نتاجات الأسرى لها الدور الكبير في تشجيع التأليف، فمن قرار هيئة شؤون الأسرى بدعم تكاليف الطباعة والنشر، إلى قرار العديد من دور النشر بالطباعة المجانية أو المحدودة التكاليف، إلى منح صلاحية إعادة الطباعة في فلسطين إن كانت دار النشر في الخارج، كل ذلك عنى انتفاء همّ ثقيل، كان من الممكن أن يلقي بثقله على كاهل الأسرى الذين يرغبون في النشر.
إنّ الإنتاج الثقافي والمعرفي للأسرى يؤكد على الدور الطليعي لهم، في النضال ضد مديرية السجون وفاشيّتها، وعلى جبهة الصمود والتحدي، وفي الجبهة الثقافية في مواجهة الرواية الصهيونية العنصرية.