رام الله | مرّة أخرى، يخوض مخيم جنين معركة جديدة ضدّ جيش الاحتلال، لن تكون الأخيرة طالما بقيت المقاومة بخير وأكثر قوة ممّا كانت عليه، وطالما ظلّت بنادقها بوصلة للاشتباك الممتدّ في الضفة الغربية المحتلّة. على حين غرّة، تسلّلت قوات خاصة من وحدات «الكوماندوز» الإسرائيلية، صباح أمس، إلى محيط مخيم جنين، حيث جرى اكتشافها من قِبل المقاومة، لتُفعّل صفارات الإنذار، وتندلع اشتباكات عنيفة بين المقاومين وقوات الاحتلال التي هرعت من حاجز الجلمة وحاجز سالم وشارع الناصرة إلى المخيم، مدعومةً بطائرات مسيّرة، وجرافات عسكرية، ومصفّحات. وتُعدّ هذه العملية، التي قالت مصادر عبرية ابتداءً إنها تستهدف منفّذ عملية حوارة (20 آب) أسامة بني فضل، الأولى من نوعها منذ الاجتياح الكبير لمخيم جنين في تموز الماضي والذي استمرّ 3 أيام.

وبالنظر إلى أن مخيم جنين تحوّل إلى حاضنة قوية للمقاومين ومنفّذي العمليات، فقد ساد اعتقاد لدى الدوائر الأمنية الإسرائيلية بأن بني فضل يتحصّن فيه، على غرار ما فعله الشهيد عبد الفتاح خروشة الذي سبق أن نفّذ عملية في بلدة حوارة (26 شباط) قتل فيها مستوطنان اثنان، ومن ثمّ تحصّن في المخيم لأسابيع عدّة، قبل أن يرتقي شهيداً في اجتياح للمخيم. ويمثّل عدم وصول جيش الاحتلال، حتى الآن، إلى منفذ عملية حوارة الأخيرة فشلاً عسكرياً واستخباراتياً كبيراً له، ليس في الواقع إلّا استمراراً لفشل طويل بدأ منذ نيسان 2022، في ظلّ تعثر حملة «كاسر الأمواج» التي أطلقها العدو في الضفة، ولم ينجح من خلالها في القضاء على خلايا المقاومة، لا بل إن الأخيرة قوي عودها، واشتدّ ساعدها، وتنوّعت ضرباتها. واليوم، يثبت مخيم جنين أن عدوان تموز باء بالفشل هو الآخر، بالنظر إلى ما أظهرته المقاومة في المخيم من قوة، وجاهزية، ووحدة في الميدان وإرادة قتال، أكدت ديمومتها على رغم عمليات الاعتقال والاغتيال.
وعلى خلفية هذا الفشل، يضحي مفهوماً لجوء جيش الاحتلال، للمرّة الأولى، إلى استخدام طائرة انتحارية مسيّرة من نوع «ماعوز» ضدّ المقاومين، لكن هذه الأخيرة فشلت، بحسب المصادر المحلية، في مَهمتها، وانفجرت فوق مركبة في المخيم، وهو ما أقرّت به إذاعة الجيش الإسرائيلي. ويُعتبر اعتماد هذا النوع من الطائرات مؤشّراً إضافياً واضحاً إلى خشية العدو من تزايد ضربات المقاومين وتطوّر قدراتهم، وتحديداً لناحية العبوات الناسفة، التي تَمثّل آخر المعطيات المقلقة بشأنها في انفجار إحداها في نابلس قبل أيام، وتسبّبها بإصابة ضابط و3 جنود إسرائيليين. وذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية أن «الطائرة الانتحارية المُعلَن عنها دخلت الخدمة خلال العملية العسكرية في مدينة جنين ومخيمها»، وهي «تحمل متفجّرات صغيرة، وتسبّب أضراراً مميتة، وتُوجَّه نحو المسلّحين في المناطق أو المسلّحين الذين يطلقون النار من المركبات ويهربون». وبحسب «واللا»، فقد بدأت دائرة سلاح اليابسة في الجيش الإسرائيلي، مع بداية العام، بتوزيع «ماعوز» على وحدات النخبة في الجيش، بما فيها وحدة «الشبح» ووحدة «مكافحة الإرهاب».
تبدي المستويات الأمنية الإسرائيلية قلقها من الفترة المقبلة، في ظلّ إنذارات بإمكانية تنفيذ عمليات فدائية بالتزامن مع الأعياد اليهودية


وعلى رغم أن جيش الاحتلال أعلن اعتقال 3 عناصر من «كتائب القسام» في مخيم جنين، وهم ورد شريم وعبد الله صبح ومعتصم جعايصة - اثنان منهم مصابان -، الذين تتهمهم إسرائيل بالعضوية في «كتيبة العياش»، والمسؤولية عن تصنيع وإطلاق صواريخ من جنين نحو المستوطنات، وتفخيخ سيارة انفجرت عند حاجز الجلمة قبل أشهر، وتنفيذ عمليات إطلاق نار، إلّا أن الكتائب، وهي الذراع العسكرية لحركة «حماس»، أكدت أن الاحتلال فشل في تحقيق أهدافه خلال الاقتحام. وأكدت «القسام» أن الاعتقالات لن توقف المقاومة ولن تعيق تطوّر بنيتها، مضيفةً أن الأيام ستثبت أن الاحتلال فشل في عمليته العسكرية، ومتعهّدة بأن «المقاومة، وفي القلب منها كتائب القسام، ستواصل معركتها مع العدو الصهيوني الذي يعيش في أزمة حقيقية بعد الضربات المتتالية التي وجّهتها القسام مع كلّ أبناء شعبنا ضد جيش العدو ومستوطنيه في الضفة الغربية».
بالنتيجة، نجحت المقاومة في التصدّي للعدوان الجديد بإسقاط طائرة مسيرة وتفجير عبوات ناسفة عدة بآليات الاحتلال، لكن عملية الأمس أثبتت أن جيش العدو لن يفوّت أيّ فرصة تَسنح له للانقضاض على المقاومة، وأن ادّعاءات ترك الأمور للسلطة للتصرف في جنين تبدو واهية. مع ذلك، لا يمكن النظر إلى ما جرى في المخيم بعيداً عن حالة التخبّط التي يعيشها المستويان الأمني والسياسي في دولة الاحتلال، جراء استمرار حالة المقاومة وتصاعد العمليات، واللذين ولّدا موجة انتقادات من قِبل المستوطنين الذين احتجّوا أمام مقرّ الحكومة قبل أيام من اجتماعها، واتّهموها بعدم توفير الأمن، فيما شهدت أروقة الحكومة و«الكابينت»، في الفترات الماضية، مشادات وسجالات بين وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الحرب يوآف غالانت، بشأن خطورة هذا الوضع وكيفية التخلّص منه.
ولا تخفي إسرائيل قلقها الكبير من المكانة التي بات عليها مخيم جنين، والذي تحوّل إلى حصن للمقاومين في الضفة، وملاذ آمن لمنفّذي العمليات، إضافة إلى ما يجسّده من وحدة حال ووحدة مصير ومواجهة، ليس في فلسطين فحسب، بل وفي المنطقة أيضاً. ولذلك، فإن ما يجري في جنين اليوم يلقي بظلاله على مناطق الضفة الأخرى، بل وعلى مجمل بقيّة الساحات المتمثّلة في قطاع غزة وسجون الاحتلال والحدود الشمالية لفلسطين، خاصة بعد عمليّتَي حوارة والخليل، وتهديدات الاحتلال بتنفيذ اغتيالات ضدّ قادة المقاومة، وتحذير الأخيرة في المقابل من اندلاع حرب شاملة والحال هذه. وفي هذا السياق، تبدي المستويات الأمنية الإسرائيلية قلقها من الفترة المقبلة، في ظلّ إنذارات بإمكانية تنفيذ عمليات فدائية بالتزامن مع الأعياد اليهودية، وتقديرات أمنية إسرائيلية تشير إلى أن الأوضاع أقرب ما تكون إلى اندلاع مواجهة عسكرية كبرى، فضلاً عن التوتّر السائد في سجون الاحتلال مع إعلان الأسرى نيتهم بدء إضراب عن الطعام ردّاً على تقليص وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، الزيارات المسموح لزائريهم بها إلى مرّة واحدة كل شهرين. ويتصاعد هذا التوتر بالتزامن مع عمليات اقتحام ومداهمة تنفّذها قوات القمع الإسرائيلية كان آخرها صباح أمس، فضلاً عن عمليات نقل تعسفية بين السجون، تبقى أحد أقوى الصواعق الكفيلة بتفجير الوضع برمّته.