القاهرة | لم يكُن تأسيس «التيار الحر»، أواخر حزيران الماضي في مصر، مفاجئاً، في ظل توجّه السلطات المصرية أخيراً إلى توسيع هامش الحياة السياسية، نسبياً. التيار الليبرالي الذي شكّلته أحزاب «المحافظين» و«الدستور» و«مصر الحرية» و«الإصلاح والتنمية»، لم يستند في سيرورة تشكّله إلى قاعدة جماهيرية واسعة؛ إذ يَندر وجود حضور قاعدي واسع لأغلب أحزابه في الشارع، فيما الحزب الآتي من دائرة الموالاة، من بين أطرافه، وهو «الإصلاح والتنمية» بقيادة عصمت السادات، يتمتّع بتسعة مقاعد في مجلس النواب، وبمنصب رئيس «لجنة البيئة والطاقة والقوى العاملة» في مجلس الشيوخ، فضلاً عن عضوية السادات نفسه في «المجلس القومي لحقوق الإنسان»، وبالتالي تحاوره الدائم مع المؤسسات الغربية ذات الصلة، بصفته وكيلاً للإدارة المصرية. وأتى تشكيل «التيار الحر» بالتزامن مع تصاعد الجدل السياسي عشية انتخابات الرئاسة، وخصوصاً بعد إطلاق المرشّح المحتمل للرئاسة، أحمد الطنطاوي، حملته التي على الرغم من أنها باتت حالياً تتمتّع - منفردة - بأكبر جسم تنظيمي وأوضحه، إلّا أنها لا تلقى غطاءً رسمياً من «الحركة المدنية الديموقراطية» (أوسع جبهة معارضة في مصر)، بالإضافة إلى اللقاء المصوّر الذي أجرته منصة صحافية محلية مع الكاتب نصر القفّاص - الممنوع من الكتابة والمعروف بانتمائه الناصري -، والذي لفت الأنظار بهجوم غير مسبوق على مناخ القمع، لينال اللقاء اهتماماً تجاوز المهتمّين التقليديين بالسياسة، قبل أن يتمّ حذفه لاحقاً. في هذا الأجواء، انفرد التيار الوليد بأعلى صوت إعلامي، بعدما استتبع مؤتمر تدشينه بسلسلة تصريحات ومؤتمرات صحافية، كان آخرها مؤتمر للتعقيب على حبس هشام قاسم، الناشر والناشط الليبرالي، والقيادي السابق في حزب «الغد» - برئاسة أيمن نور -، وأحد مؤسّسي جريدة «المصري اليوم»، المعروف بمواقفه المؤيدة للتطبيع. وجاء حبس قاسم بعد دعوى سب وقذف أقامها ضدّه كمال أبو عيطة، القيادي الناصري ووزير القوى العاملة السابق، تلَتها أخرى أقامها عناصر شرطة قسم «السيدة زينب» في القاهرة، على خلفية ما قيل إنه اعتداء قاسم على هؤلاء خلال احتجازه.

المبادرة السياسية مدخلاً
التقط «التيار الحر» - الليبرالي - إذاً، في أجواء التساهل مع النشاط الحزبي وإطلاق «الحوار الوطني»، فرصته ليبصر النور، وخصوصاً أن أغلب مكوّناته وأكبرها متموضعة قرب دوائر الموالاة - باستثناء حزب الدستور -. هكذا، عاد قاسم من الخارج ليتصدّر عملية تدشين التيار الذي يشغل منصب رئيس مجلس أمنائه، على الرغم من أنه ليس عضواً في أيّ من أحزابه، قبل أن تنفجر أزمته مع أبو عيطة بعد عدّة أسابيع. وبرز من بين اللقاءات التي أجراها قادة «التيار الحر» مع منصّات إعلامية، تلك التي خاضوها مع قناة «بي بي سي» العربية، وتوالَت لنحو 6 أشهر، ورفعوا فيها سقف المطالب، والنقد للهيكل السياسي المصري نفسه ولنظام إجراء الانتخابات والقائمة المطلقة. ومن ضمن هذه اللقاءات، واحد لقاسم رأى فيه أن إعادة ترشّح الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قد تسبّب اضطرابات سياسية، معلناً أن التيار «يريد تخليص الاقتصاد من نفوذ الدولة والمؤسسة العسكرية» تحديداً، و«الذي يدمّره منذ 1961»، وفق قوله. وبدت تلك الخطوات بمثابة محاولة لجذب أوسع قاعدة من التيار الرئيسيّ للمعارضة الحالية، الميّال إلى ترك الجيش العملية السياسية، واستنهاض رجال الأعمال المنافسين لهذا النفوذ أو المتضررين منه، في ما يتمايز نسبياً عن خطاب «الحركة المدنية الديموقراطية» - التي تشمّل مكونات يسارية -.
يمثّل الالتزام بتوجّه «كامب ديفيد» وباقتصاد السوق الحر، الناظميْن الرئيسيْن لنيل الحدّ الأدنى من غطاء القوى الغربية


الإمكانات والمصالح
يتمثّل العامل الثاني خلف صعود «الليبرالي الحر»، الذي حضر 20 من كبار رجال الأعمال تدشينه، في حيازة مكوّناته إمكانات أوليّة للقوة والفعل السياسي، كونها أحزاباً رسمية معترفاً بها. وإلى جانب ذلك، يمثّل السادات وحزبه «الإصلاح والتنمية»، مع رئيس حزب «المحافظين»، أكمل قرطام، بالفعل، شريحة عليا ذات مصالح يقلّصها تردّي الوضع الاقتصادي، وتنافسها مؤسسات وهيئات وصناديق في الدولة، سواء داخل نطاق «المشروعات القومية» أو خارجه. إذ يعمل الأول (السادات) في النقل البحري والطاقة، برفقة الرئيس الأسبق للهيئة العامة للبترول، وأحد كبار موزعي الغاز، ورئيس «لجنة البيئة والطاقة والقوى العاملة» في مجلس الشيوخ عبد الخالق عياد، بينما يعمل الثاني (قرطام) في مجال البترول والإعلام، وهو أحد مؤسّسي «المصري اليوم»، ويضمّ حزبه، الحاصل على 6 مقاعد في برلمان 2015 وغير الممثّل في المجلس الحالي، أصحاب مكانة ومستثمرين. والجدير ذكره، هنا، أن مقرّ المحافظين في «غاردن سيتي»، أحد أرقى أحياء القاهرة، حيث السفارة الأميركية، يستضيف اجتماعات التيار، الذي بات خطابه يطرح بوضوح مصالح اجتماعية واقتصادية متبلورة، وأكثر تجانساً ممّا تعكسه «الحركة المدنية الديموقراطية».
«مصر بلد لها حمَلة أسهم stakeholders، ولن يسمحوا باستمرار الوضع الحالي»، هكذا قال المعارِض شريف عثمان، ضابط الجيش السابق المقيم في أميركا، في مقطع مصوّر يُظهر نبرة ثقة غير مألوفة في حدوث تغيير سياسي في قمّة السلطة. وأتى تصريح عثمان بعد لقاء مصوّر مع منصّة صحافية محلية، حُذف لاحقاً، لرجل الأعمال منير فخري عبد النور، سكرتير حزب «الوفد» (الموالي حالياً، وأقدم الأحزاب الليبرالية تقليدياً) وعضو مجلس إدارة البورصة، ووزير التجارة والصناعة والسياحة الأسبق، وسليل عائلة قبطية عريقة أنجبت جدّه، أحد رموز ثورة 1919 الوطنية. وفي اللقاء المحذوف، هاجم عبد النور مجمل سياسات النظام ومناخ الصوت الواحد، رافضاً ترشّح زميله في الحزب، عبد السند يمامة، أمام السيسي على اعتبار أنه ترشّح «صوَري». وطرَح عبد النور، وهو من كبار المستثمرين في الصناعات الغذائية وتداول الأموال والسياحة وتجارة السيارات، خطاباً اقتصادياً تلقّف فيه رسالة «التيار الحر» الخشنة، ولو من خارجه، ضدّ الملكية العامة والتخطيط المركزي للاقتصاد، ليعيد إنتاجها بنبرة معتدلة تناسب موقعه الأقرب إلى الموالاة، على الرغم من وضوح انحيازه إلى المدّ اليميني الجديد.

«الشرعية الدولية»
على جدليّة مصطلح «الشرعية الدولية»، تفيد هذه الشرعية في السياق المصري (ودول الجنوب) العلاقة الإيجابية بمؤسسات النظام العالمي، وذلك هو العامل الثالث: نيل اعتراف ومباركة - أو شراكة - القوى الغربية، والإقليمية ذات الصلة، والأمم المتحدة وأجسامها، التي تعكس جميعها بنية النظام العالمي الحالي ونفوذه. ومن هنا، ليس غريباً صعود السادات السياسي أخيراً، المتجلّي في دوره في مفاوضة الرقابة الغربية على «حقوق الإنسان»، وفي تصدير الغاز إلى إسرائيل منذ نحو عقدين، ومثْله حضور هشام قاسم، الذي شارك رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق، عاموس يدلين، وضع تقرير في أيار عام 2011 بعنوان «الربيع العربي... التداعيات على أميركا والشرق الأوسط»، خلال مشاركته في جلسة حوارية في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى».
بالنسبة إلى المعارضة المصرية إجمالاً، يمثّل الالتزام بتوجّه «كامب ديفيد» وباقتصاد السوق الحر، الناظميْن الرئيسيْن لنيل الحدّ الأدنى من غطاء القوى الغربية على اختلافها، عدا عن طبيعة النخبة الاقتصادية المصرية منذ السبعينيات، في علاقتها بالسوق العالمي، ووكالتها لقطاعات تتبع المصالح الاقتصادية الغربية. وهذه الأخيرة، مثّلها محمد البرادعي، الموظّف الدولي السابق، بتأسيسه عام 2012 حزب «الدستور» (عضو التيار الحر)، كنموذج لخطاب ليبرالي إصلاحي يؤيد بيع القطاع العام، وتخفيف التخطيط المركزي، شريطة اعتماد معايير الشفافية والفائدة. وترأس هذا القطاع حالياً جميلة إسماعيل، التي ساجلت الرئيس بشكل غير مباشر منذ أشهر، بمداخلة هاتفية على التلفزيون الرسمي، هاجمت فيها خلاصة «المؤتمر الاقتصادي» المنعقد وقتها، على اعتبار أنه «غير ذي فائدة» مع الديون وتزايد الفقر. وتلت مداخلة إسماعيل، مداخلة طويلة للسيسي لمّح فيها إلى استخدام غير الفقراء لظاهرة الفقر في سياق المزايدة على الدولة، مذكّراً برئاسته لجهاز المخابرات الحربية سابقاً، والتي تعني أن «لديه كل الملفّات» وفق قوله.