تونس | تتواصل «اللعبة السياسية» في تونس وفق القواعد التي أرستها إجراءات الـ 25 من تموز من عام 2021؛ إذ يَرسم الرئيس قيس سعيد المسار الذي يجرّ إليه خصومه جرّاً، فيما تقف على هامش الفعل وردّ الفعل، المنظّمات الوطنية والأحزاب المعارِضة على اختلاف توجّهاتها. وإذ لا يزال مستبعداً انعقاد الانتخابات التشريعية والرئاسية السنة المقبلة، فإن البلاد تعيش حالة من اللاحراك السياسي، بعدما انحصرت الديناميات في الاعتقالات والمطالبات بالإفراج عن المعتقلين، وسط لامبالاة تامّة من جانب التونسيين الذين يَعتبرون أنفسهم غير معنيّين بالصراع بين السلطة وخصومها. وعلى رغم أن نظام سعيد يفتقر إلى معاونين محنّكين ومهندسين سياسيين لإدارة «اللعبة»، إلا أن مجريات الأحداث تكشف بوضوح أن الرئيس أو مَن يقدّمون له المشورة في الخفاء، تمكّنوا فعلاً من إعادة إنتاج المشهد السياسي بما يخدمهم، بحيث بات الحديث عن «غباء النظام وخطواته المرتبكة» واهماً، وخصوصاً في ظلّ تمكّنه من إطفاء شعلة كل المعارضات المحيطة به، سواء السياسية منها أو تلك المدنية الفاعلة في إطار المنظّمات غير الحكومية.وبينما كانت حركة «النهضة» رأس حربة في مقارعة نظام سعيد، نجح هذا الأخير في جعلها تتقهقر على مستوى الأداء السياسي وحتى الحضور الجماهيري، لكنه ذهب أبعد من ذلك، بجعلها تتفتّت قبيل انعقاد مؤتمرها العام. وكان رئيس الحركة المعتقل، راشد الغنوشي، يحاول جاهداً، منذ عام 2020، تأجيل انعقاد المؤتمر الحادي عشر، حتى لا يضطرّ إلى التنحّي عن قيادة حزبه، متمترساً آنذاك خلف مجموعة من الشخصيات المقرّبة منه لترجيح الكفّة لمصلحة التمديد له. وهو نجح فعلاً في المراوغة وتأجيل الموعد، قبل أن يتعلّل بإجراءات الـ 25 من تموز، للبقاء على رأس الحركة، على رغم استقالة حوالي 100 من قيادييها، احتجاجاً على قرار الغنوشي. ومنذ اعتقال الغنوشي، وعدد من القيادات المقرّبة منه، على ذمة قضيّة متعلّقة بـ«تصريحات تحريضية»، جرى تعيين منذر الونيسي زعيماً للحزب بالإنابة، للتحضير للمؤتمر، فيما كان واضحاً أن الونيسي لا وزن له داخل «النهضة»، ولا يتمتّع بميزات قيادية، وهو غير قادر على جمع أعضاء الحركة، ولا سيما أن المستقيلين يمثّلون الشخصيات «النهضوية» والمؤثرة في الرأي العام، في مقابل من تبقّوا، وهم مجموعة لطالما وصفت بالانتهازية.
يدرك سعيد أن المغادرين لسفينة «النهضة»، لم يقطعوا الحبل السرّي الرابط بينهم وبينها؛ وإذا ما ذهبت الأمور نحو التصعيد، فإن أغلبهم سيعود من جديد. وتفادياً لهذا السيناريو، اعتُقل، خلال الفترة الماضية، أغلب القيادات التي يمكن أن تلعب دوراً مستقبلياً، وآخر هؤلاء رئيس مجلس الشورى في الحركة، عبد الكريم الهاروني، ورئيس الحكومة الأسبق، والرئيس الأسبق للحزب حمادي الجبالي. كما اعتُقل، قبل يومين، الونيسي، في ظلّ حديث عن احتمال أن يكون الأمر مجرّد مسرحية يراد منها تبييض صورته وإخراجه كمعادٍ للسلطة، بعدما انكشف أمره إثر التسريبات الأخيرة التي تحدّث فيها صراحةً عن وجوب إخراج «النهضة» في مظهر جديد صديق لسعيد ونظامه.
في خضمّ ذلك، يبدو لافتاً أيضاً أن صوت «جبهة الخلاص الوطني» خفت بشكل ملحوظ، في غياب التظاهرات والاحتجاجات. ويرى مراقبون أن الجبهة دخلت في مرحلة يأس من إمكانية قلْب النظام، وخاصّة أن احتدام الأزمة الاقتصادية وندرة المواد التموينية لم يؤدّيا إلى تحرّكات اجتماعية تزعج سعيد، إلى الآن. أمّا المعارضة الاجتماعية الديموقراطية، على غرار أحزاب «التيار الديموقراطي» و«الجمهوري» و«التكتل» و«المسار»، فوجدت نفسها في حرب إنهاك طويلة بدأت باعتقال قياداتها الرمزية من مؤسّسين وفاعلين في إطار ما يُعرف بقضية «التآمر على أمن الدولة»، وأرغمتها على استبدال الوقفات الاحتجاجية المطالِبة بالديموقراطية، بحراك قضائي لتخليص هؤلاء من التّهم الموجّهة إليهم. وبدا جليّاً أن النظام الحالي انتقى المتّهمين بعد دراسة معمّقة لدائرة علاقاتهم وتأثيرهم، وخصوصاً غازي الشواشي وعصام الشابي، اللذين يتمتّعان بكاريزما وقدرة على الإقناع، وسبق لهما الحصول على نتائج جيدة في الانتخابات، لولا توجيه «النهضة» ماكيناتها لضربهما في محطّات انتخابية سابقة حتى لا يلعبا دوراً أوسع في الساحة. وأتى اعتقالهما، في الواقع، من أجل أن لا يكون لهما أيّ دور قبيل الانتخابات المقبلة أو يدخلا في تفاهمات مع «النهضة» للتصعيد ضدّ سعيد.
وعليه، لم يبقَ إلا صوت رئيسة «الحزب الدستوري»، عبير موسى، عالياً في الساحة السياسية. ولكن اللافت للانتباه تآكل قاعدتها، بعدما بنت شعبية كبيرة على خطاب مقارعة «النهضة» وإسقاطها.