على الرغم من الاشتباكات في مخيم عين الحلوة، ونزوح عدد كبير من العائلات جرّاء المعارك الطاحنة التي شهدها المخيم منذ أكثر من نحو شهرين، وما حصل خلال جولتين استخدمت فيهما أسلحة وقذائف مختلفة أمطرت عدة أحياء من المخيم، لم تنزوِ نسوة المخيّم في منزلهن، بل تحدّين المخاطر والصعاب، وقمن بواجبهن على أكمل وجه.هي الأمّ والمرأة الفلسطينية التي وجدت نفسها وحيدة كوردة في الثلج، تواجه متحدّية كل الظروف الصعبة. أسهمت نساء المخيم في الأيام العصيبة في تخفيف المعاناة عن كاهل أسرهن، بداية بتأمين الغذاء والدواء للعائلة؛ فالنساء خرجن تحت القذائف وخلال الاشتباكات ودسن على الركام والنفايات بعد أن أصبح التجوّل في الشارع نوعاً من أنواع الانتحار، وكل ذلك من أجل تأمين ما هو ضروري للأطفال في المنزل.
أمّ محمد، واحدة من تلك النساء، مشت على الركام، وانتبهت لقنبلة لم تنفجر، تجاهلتها، وتجاهلت خطرها المحدق، فقد تنفجر في أيّ لحظة، فلم تكن تفكّر في تلك اللحظة كما تقول إلا «بطعام لصغارها». وتكمل شارحة معاناتها خلال الاشتباكات: «شو الي رماك على المرّ غير الي أمرّ منه؟ لا قدرة مادية لنا للإيجار خارج المخيم، فبعد وفاة زوجي بسرطان الرئة منذ أربع سنوات، تاركاً لي أربعة أولاد، أكبرهم يبلغ من العمر 12 سنة، اضطررنا للبقاء داخل المخيم، ويومياً أعيش المعاناة نفسها، منذ تنفيذ الهدنة، فللحصول على الطعام أذهب بسرعة إلى السوق متجاهلة ما تدوسه قدماي وأعود محمّلة بما أمكن».
هذه السيدة واحدة من مئات الأسر في المخيم، لا قدرة لها على الخروج، بقيت خلال المواجهات الأخيرة وما قبلها متعايشةً مع الخطر وفقدان الأمان.
شمس، أيضاً، وهي سيدة خمسينية، تقول لـ«الأخبار» إنّ «المرأة الفلسطينية في المخيم تعيش أوضاعاً صعبة للغاية جراء الاشتباكات المستمرة المتلاحقة، فما إن نصلح ما خلّفه الاشتباك السابق، حتى يأتي آخر يدمّر ما أصلحناه». وتشير إلى أن ما تعيشه المرأة من اشتباكات وتهجير ونزوح متكرر إلى الشوارع والمصلّيات، جعلها تشعر أنها أقل من نظيراتها، ممن يسكنّ خارج المخيم، بفعل غياب عامل الاستقرار الأمني والاقتصادي. توضح شمس، التي تعيش في حظيرة بقر في درب السيم بعد أن فقدت منزلها في حي حطين، أن تدمير المنازل أضاف همّاً إضافياً إلى العوائل الفلسطينية، ولا سيما أننا على أبواب فصل الشتاء وبدء العام الدراسي.

ناشطات
استمر عمل الناشطات في المخيم، ولا سيما في الأوضاع التي مرّ بها خلال جولتَي القتال في الفترة الماضية. المتطوّعة في جمعية «نبع» سماح أيوب توضح أنه: «منذ اندلاع الاشتباكات ونحن نقدّم الخدمات المختلفة في شتى المجالات، من الدعم النفسي للأطفال وصولاً إلى الإغاثة، خاصة أن هناك أوضاعاً اقتصادية صعبة، فاقمتها الاشتباكات، ونفاد معظم المواد الغذائية، وظهور حالات مرضية خطيرة بسبب تراكم النفايات والتلوث وغياب القطاع الصحي».


تجربتي
أمّا أنا، كاتبة هذه السطور، وواحدة من سكان المخيم، فيشكل ذهابي إلى السوق أو البقاء في المخيم تحدياً من نوع آخر، فما إن تهدأ أصوات الرشاشات وينبلج الصباح، حتى أرى المخيم بصورة غير تلك التي اعتدناها، أراه «إعصاراً»، ربما المعنى الأكثر تجسيداً للحالة التي نعيشها. انتهت الاشتباكات بمعناها التقليدي، موت، دمار، قتلى، جرحى وسيارات إسعاف، بنادق ملطّخة بالدماء. إلا أنها مستعرة في نفوسنا، حرب لا تهدأ، فانتهاء المعركة بالنسبة إلى وسائل الإعلام إعلان وقف إطلاق النار، أمّا بالنسبة إليّ فهو عودة الحياة إلى سابق عهدها... حرب ما بعد الحرب أصعب بكثير من أزيز الرصاص. أسير في طريقي نحو السوق، الشوارع فيه فارغة إلا من أطلال بيوت كانت مسكونة بأناس آلف وجوههم، يتبسمون لأطفالي... اليوم في طريقي نحو السوق، البيوت ذاتها فارغة، الطرقات خالية، لا يوجد إلا الركام والنفايات التي تحوّلت إلى وجبة دسمة للقطط والجرذان. كنت أمشي قبل أيام في طريق فارغة، فالتفتّ إلى الوراء، بحثاً عن أحد أعرفه، كالحاجّة التي تبيع العنب أحياناً وتقدّم لأولادي عنقوداً، وذاك الشاب الذي يركض نحوي مسرعاً لينتشل ابني الذي سقط على الأرض، وبائع الكعك الذي يطلب مني أن أتذوّق كعكه قبل الشراء، افتقدت ضجيج المارّة والباعة، وضحكات الأطفال وجدال النسوة، جميعهم رحلوا وتُركنا نحن على قيد الاشتباكات.
حين أسأل نفسي ماذا خسر الناس في هذه المعارك؟ هل خسروا بيتاً، زوجاً، محلاً تجارياً، ابناً؟ أجيب، خسروا أنفسهم، وأنا أيضاً خسرت نفسي. ثلاثون عاماً وأنا في طاحونة الاشتباكات، أحاول النجاة من رحاها ومعي «اضطراب ما بعد الصدمة» الذي سيرافقني مدى الحياة، تاركاً على وجهي الثلاثيني ملامحَ خمسينية.