الأرض التي تحتوي شهداء أفظع مجزرة شهدها تاريخ بلادنا، مجزرة صبرا وشاتيلا، برسم البيع. «رفات الشهداء الساكنة» عند مدخل منطقة صبرا، الذي ارتبط اسمه بأكثر من 3500 شهيد، معروضة للاستثمار التجاري. فلا يجد الشهداء، على فظاعة الاحتلال وعملائه، من يدافع عنهم اليوم. وبدلاً من تحويل قطعة الأرض التي تحتوي على آلاف الضحايا، ومساحتها 2400 متر مربع، إلى متحف يخلّد ذكرى أفظع مجزرة شهدها الشعب الفلسطيني، تتنصّل الفصائل الفلسطينية والدولة اللبنانية من المسؤولية عن دفع أقل من مليوني دولار، وهو مبلغ قليل مقارنةً مع حفلة الجنون الأخيرة في عين الحلوة والتي قادتها بعض الفصائل المتنصّلة من حفظ أرض الشهداء. لولا صمود بلدية الغبيري في ضاحية بيروت حتى اللحظة، لتحوّلت الأرض الشاهدة على مجزرة استمرت لثلاثة أيام بلياليها إلى منازل ومحالّ تجارية، ولنُحر الشهيد مرتين، مرّة بسكين الحقد، وأخرى بإهمال الذكرى.في مثل هذه الأيام من عام 1982 حام الموت فقط فوق مخيم شاتيلا الذي يعجّ بالحياة اليوم. وهذه المداخل نفسها التي يملؤها الناس والباعة، كانت تحكمها دبابات العدو، فتمنع أهالي المخيّم من الخروج، وتدخل عليهم قطعان عملائها لتنفيذ عملية إبادة جماعية قتلت فيها سكاكين الحقد كلّ كائن حي.
على بعد أمتار قليلة من مدخل المخيّم، وفي بقعة هادئة تحيط بها الأشجار، وتحرسها أسوار المنازل وحارس لبناني في سبعينيات العمر، يرقد في العقار 4756 عدد غير معروف، لكنّه يناهز الألف شهيد، من ضحايا المجزرة. فلسطينيون، لبنانيون، سوريون، وشهداء آخرون من جنسيات عربية وأجنبية لم يجد الصليب الأحمر في حينها من عام 1982 من حلّ سوى دفنهم في مدفن جماعي على إثر تحلّل الجثث.
العقار «4756 الشياح» في نطاق بلدية الغبيري، المرقد الأخير لعدد كبير من شهداء المجزرة، مصنّف بحسب خرائط «مشروع أليسار» بأنّه مدفن. ولكن، هذه الأرض ملك خاص لأشخاص من آل العرب، ويرغب أصحابها ببيعها، ووضعوا لهذه الغاية سعراً وقدره 1500 دولار للمتر الواحد. وبعد متابعة بلدية الغبيري، تمكّنت من دفع مجلس الوزراء لـ«إصدار المرسوم 8673 عام 2002 الذي اعتبر الأشغال العائدة لمشروع إنشاء مدافن لشهداء مجزرة صبرا وشاتيلا من المنافع العامة، واستملاك العقار 4756، على أن تباشر عمليات الاستملاك خلال ثماني سنوات ابتداءً من تاريخ المرسوم».
وعود الفصائل الفلسطينية بالمساهمة أو شراء الأرض لم تُترجم على أرض الواقع


لم تنطلق عمليات الاستملاك رغم مرور 21 سنة على صدور المرسوم، و11 عاماً على تكليف مجلس الوزراء لوزارة الداخلية، بموجب القرار الرقم 65، بـ«تقدير التعويضات المترتّبة عن استملاك العقار 4756 وإحالتها إلى وزارة المالية لدفعها إلى المالكين». في المقابل، قام مجلس شورى الدولة عام 2016 بإصدار القرار الرقم 784 الذي أسقط المرسوم 8673. بالتالي تقدّم مالكو العقار مرّة أخرى عام 2018 بعرض بيعه للبلدية بسعر 1500 دولار للمتر، أي ما يوازي ثلاثة ملايين وستمئة ألف دولار. ولكنّ «البلدية لا يمكنها شراء العقار» يقول رئيس بلدية الغبيري معن خليل ان ـ«ميزانية البلدية لا تسمح بشراء العقار، علما ان هذا المكان يعد من ذاكرة الوطن وذا من مسؤولية الدولة اللبنانية والاوقاف اكثر مما هو مسؤولية بلدية».
وعلى خط موازٍ، تحرّكت بلدية الغبيري نحو جميع الفصائل الفلسطينية، والجهات الرسمية في لبنان لدفعها لشراء العقار، وتحويله إلى نقطة مركزية للتذكير بوحشية اجتياح العدو عام 1982، ودمويته ضد القضية الفلسطينية والفلسطينيين. خلال الوقت الضائع، لم تترك البلدية المكان من دون حماية، ولا سيّما كون العقار أرضاً فارغة داخل منطقة مكتظّة سكنياً ومعرّضاً بشكل كبير للتعدّيات. ولذلك، قامت بتعيين حارس على الأرض يتقاضى راتباً من البلدية لحفظها من التجاوزات، وعملت في الفترة الأخيرة على منع عملية بيع الأرض لأحد التجار في المنطقة، إذ كانت ستتحول مدافن شهداء المجزرة إلى «مجرّد بلاطة في سوق صبرا».
وعود الفصائل الفلسطينية بالمساهمة أو شراء الأرض لم تُترجم على أرض الواقع. تلقّى الخليل تطمينات من أرفع المسؤولين في منظمة التحرير، آخرها كلام عزام الأحمد، مبعوث الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بأنّ «الموضوع سيُحلّ خلال أسبوع بعد عودته من رام الله، وسيطلب من الرئيس الفلسطيني التدخل شخصياً». أمّا آخر الوعود بحلّ المسألة، فجاء أمس على لسان أمين سر منظمة التحرير في لبنان فتحي أبو العرادات الذي تعهّد خلال إحياء ذكرى المجزرة بـ«التعاون والرد والمتابعة». المنظمات الدولية غابت أيضاً عن المشهد، إذ لا يعنيها أبداً تخليد ذكرى مجزرة قام بها الاحتلال الإسرائيلي، بل تعتمد سياسة الكيل بمكيالين، ففي أوروبا تلاحق كل أثر لاضطهاد يهودي على يد ألمانيا النازية، وتسعى لأجله لإقامة التماثيل والمتاحف. في المقابل، لا تشارك حتى في ذكرى قتل من كانوا تحت حمايتها في المخيمات في أيلول 1982.
أمام هذا المشهد، قامت بلدية الغبيري بإعادة التفاوض مع أصحاب الأرض من آل عرب، ووصلت إلى تسوية جديدة قضت بتسعير المتر الواحد بـ 500 دولار، ما جعل السعر الكلّي للعقار 4756 ينخفض حتى مليون ومئتي ألف دولار. وفي الوقت عينه، تابعت بلدية الغبيري العمل على حل القضية، فقامت بتأسيس جمعية تحت اسم «1982-صبرا وشاتيلا»، علم وخبر 1283، وبهدف واحد «المحافظة على ذاكرة ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، وتخليد ذكراهم في تاريخ المجتمع اللبناني والفلسطيني». وتمكّنت الجمعية حتى اللحظة من جمع مبلغ 10 آلاف دولار في مؤسسة القرض الحسن، في الحساب الرقم 814-50 من مساهمين ومناصرين للقضية الفلسطينية.، بعدما رفضت مصارف لبنانية فتح حسابات لتلقي الهباتفور علمها باسم الجمعية وأهدافها. والجمعية الوليدة ملّت من الوعود، وستسعى لجمع المبلغ المطلوب لشراء الأرض من الناس في الطرقات وأهالي المخيمات، ومناصري القضية الفلسطينية.



عدنان المقداد يحرس أهله


يقف السبعيني عدنان المقداد على باب المدافن. صاحب اللحية البيضاء الطويلة يشرب قهوته هنا، في البقعة ذاتها كلّ يوم. «كان عمري 30 سنة يوم وقعت المجزرة، وجودي في قريتي مقنة البقاعية خلالها أنقذ حياتي»، يقول. ولكن، تحت هذه الأرض 46 شخصاً من آل المقداد، بينهم والد ووالدة عدنان، وخالاته وعماته، الذين كانوا يسكنون بيوت المخيّم، قبل أن يصبحوا ساكنين في أرضه.
عيّنت بلدية الغبيري عدنان حارساً عام 1998، مع تشكيل أول مجلس بلدي، بحسب رئيس البلدية معن خليل. ومنذ ذلك الوقت، يعمل المقداد كـ«ناطور للمدافن»، يبلّغ البلدية بحصول أيّ تعديات، ويعمل على المحافظة على نظافة المكان الواقع داخل سوق شعبي مكتظّ، وبين أبنية تحيطه من كلّ جانب.