اشتهر نورمان فينكلشتاين (1953)، الباحث الأميركي اليهودي والأستاذ في العلوم السياسية بكتابه «صناعة المحرقة» (2000) الذي تناول فيه فكرة صناعة المحرقة اليهودية بخطابها وروايتها بعد مرور عقود عدة على الحدث الأساس المرتبط بالواقع. شاع اسم الكاتب وصورته في البلدان العربية أكثر، حين نشر فيديو له عبر وسائل التواصل الاجتماعي يجيب فيه، خلال إحدى محاضراته، على واحدة من الحاضرين تداعت بالبكاء على ما رأته إهانة لها وللجمهور اليهودي الذي يتابعه، مستخدمةً «بطاقة المحرقة»، فما كان من فينكلشتاين إلا أن اعترض على ما فعلته ووصفه بـ «دموع التماسيح». كان فينكلشتاين حينها يطرح إشكالية المعايير المزدوجة لدى اليهود الصهاينة والغرب الداعم للصهيونية. وفق كلامه، كانت عائلته في معسكرات التعذيب النازية، وخسرت عدداً من أفرادها هناك، لكنه يوضح أنه في المقابل إن كان هو نفسه يرى المحرقة النازية جريمةً كبرى، فلا يمكنه منطقياً وعقلانياً أن يقبل ويدعم المحرقة التي «يرتكبها اليهود بحقّ الفلسطينيين تحت الاحتلال».
كتابه «صناعة المحرقة» تناول فكرة صناعة المحرقة اليهودية بخطابها وروايتها بعد مرور عقود على الحدث الأساس المرتبط بالواقع

عاد فينكلشتاين إلى الواجهة أخيراً مع معركة «طوفان الأقصى» التي تستمر في يومها الخامس على التوالي، ليتصدى عبر حسابه على منصة إكس (تويتر سابقاً) لمواقف العديد من الأميركيين والأوروبيين تجاه ما يحدث في غزة. علّق على تغريدة أستاذة التاريخ اليهودي و«مبعوثة الحكومة الأميركية لرصد ومكافحة معاداة السامية» ديبورا ليبستادت التي قالت «إنّ الإرهاب الهمجي الشنيع الذي حدث بالأمس ضد المدنيين الإسرائيليين، هو الاعتداء الأكثر فتكاً ضد اليهود منذ المحرقة، ولا مبرّر على الإطلاق لهذا القتل. كما أنه لا يحق لأحد أن يقول لإسرائيل كيف تدافع عن نفسها وكيف تمنع الهجمات المستقبلية وتردعها». هنا سخر فينكلشتاين منها، قائلاً إنّ التغريدة الاستثنائية هذه جاءت «بعد فوزها بجولتين من لعبة ماهجونغ» الصينية التي تقوم على فكرة تطابق بطاقتين للربح. كان فينكلشتاين قد أعاد أيضاً نشر تغريدة لفيديو يظهر فيه وزير «الدفاع» الصهيوني يوآف غلانت، وهو يعلن عن فرض حصار كامل على قطاع غزة وقطع الماء والطاقة الكهربائية وكل شيء عنه، لأنّ الاحتلال يحارب «حيوانات بشرية» وعليهم أن «يتصرفوا وفقاً لذلك». علّق نورمان فينكلشتاين بسخرية شديدة، قائلاً: «لماذا لا تختصر العملية وترشّ المكان بالـ«زيكلون ب»» (أي سيانيد المبيد الحشري).
لا تمرّ من غربال فينكلشتاين أي تغريدة غير منطقية إلّا ويصوّب عليها مثلما فعل مع مهدي حسن، الإعلامي الأميركي ذو الأصول الهندية في قناة MSNBC و NBC الذي نشر تغريدة مضللة يقول فيها «إنّ أخذ الأطفال كرهائن، إذا تم تأكيده، هو، ببساطة واضحة، عمل همجي ولا يفعل شيئاً لدفع قضية السلام أو المقاومة أو إنهاء الاحتلال». علّق عليه فينكلشتاين: «إذا شممت رائحة كريهة لجرذ المجاري، ابحث حولك عن مهدي حسن». ثم أشار إلى أنّ الصحافي قد ذكر في تغريدته «إن تم تأكيد الخبر»، ما يعني أنه لا يعلم إن كان الخبر صحيحاً أم لا، لكن «لا أحد يهتم»، ولا يعني أحد احتجاز قوات الاحتلال لحوالي مليون طفل في غزة خلال عقدين من الزمن. ووصف الباحث الأميركي تغريدة عضو مجلس النواب الأميركي إلهان عمر، الصومالية الأصل، التي تدين فيها «الأعمال المروّعة التي تحدث في إسرائيل ضد الأطفال والنساء والمسنّين والعزّل الذين يذبحوا ويحتجزوا كرهائن من قبل حماس»، بالغباء، معلّقاً: «فقط لأنك تريدين أن تصبحي مثل ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز، لا يعني أن تكوني غبية وتافهة».
علّق على وزير «الدفاع» الصهيوني ساخراً: «لماذا لا تختصر العملية وترشّ المكان بالـ«زيكلون ب»»


الأهم من كل ذلك، نشر فينكلشتاين صورةً لحيّ سكني مدمّر ومسوّى بالأرض تخاله للوهلة الأولى أنّه يقع في غزّة. لكنّ فينكلشتاين علّق عليها قائلاً: «هذا ما فعله النازيون بالغيتو اليهودي في وارسو بعدما تجرّأ اليهود على مقاومة النازيين الـ Übermensch» (نظرية نيتشه «الإنسان الأعلى» Übermensch التي تأثر بها أدولف هتلر)، في إشارة إلى الإبادة الذي يقوم بها الاحتلال الصهيوني اليوم تجاه غزّة، ومشبّهاً إياها بما فعلته النازية باليهود. حتى إنّ أحدهم علّق بأنّه لو لم يشر إلى السياق التاريخي، لكان الكلّ اعتقد بأنّ الصورة من غزّة.
يذكر أنّ فينكلشتاين كان قد استنكر قبل سنتين قيام منصة اليوتيوب بحذف فيديو مصوّر يظهر قتل الاحتلال أطفالاً في غزة، وراسل حينئذٍ الشركة طالباً توضيحاً للحذف الذي يجد أنّه لا يخالف معايير النشر على المنصة. يجدر القول إن فينكلشتاين لا يفوّت فرصةً من دون أن يبدي فيها تضامنه مع الشعب الفلسطيني ضد سياسة الاحتلال الصهيوني، مشدداً على أهمية اللغة والمصطلحات في الحديث عن هذا الصراع، فالوجود «الإسرائيلي» على أرض فلسطين هو حتماً «احتلال»، ولا مبرّر لنظام الفصل العنصري والقمع اللذين تمارسهما الحكومة الصهيونية سوى التشبّه بالنازيّين ومرتكبي المحرقة.