لا يزال مِن المتعذّر، والمبكر، الإحاطة بنتائج عمليّة «طوفان الأقصى»، إذ ينبغي انتظار تداعياتها التي ستتوالى على المستويَين الإسرائيلي والفلسطيني، كما الإقليمي. فبعدما مُني العدو بخسائر بشرية تقترب - وفق الأرقام الرسمية - من الألف قتيل، وفَقَدَ القيادة والسيطرة من جرّاء توغّل المقاومين إلى العمق الفلسطيني المحتلّ، لم يَعُد الحديث عن انهيار إسرائيل مجرّد أملٍ وتقدير أو سيناريو محتمل، وإنّما حقيقة شكّلت عمليّة «الطوفان» إحدى عيّناتها الملموسة. وفي ذلك خصوصاً، منبع الهلع الذي ألمّ بقيادة العدو وجيشه وجمهوره، سواء لجهة رسوخ هذا المفهوم لدى أعداء إسرائيل، أو حتى لدى نُخبها وجمهورها.

وبتفصيل أدقّ، حطّمت «طوفان الأقصى» مفهوم الردع الاستراتيجي إزاء المقاومة في قطاع غزة، حتى لم يبقَ منه أيّ أثر. ومِن دونه، والحال هذه، لا تستطيع إسرائيل أن «تجاوِر» عدوّاً لدوداً، يمكنه، متى أراد وفي أيّ وقت، أن يفاجئها، خاصّة بعدما أَثبت أنه قادر على مباغتتها وبمستوى استراتيجي، ما يهشّم تالياً مبدأ الإنذار. ويُضاف إلى ما تقدَّم، أن قيادة العدو أصبحت أكثر إدراكاً لواقع أنه لن يكون في مقدورها احتواء تداعيات «الطوفان»، إلّا من طريق إعادة إحياء مفهوم «الحسم» الذي تبدَّد هو الآخر في مواجهة «حزب الله» في لبنان. كما لن تستطيع إعادة بثّ الحياة في هذا المبدأ، إلّا عبر عدوان تأسيسي ضدّ القطاع يؤدّي إلى كبح المسار التصاعدي للمقاومة في فلسطين والمنطقة، وإلى إبطاء المسار الانحداري الذي يسلكه الكيان. أمّا النتائج الفعلية للخيار/ الرهان المذكور، فلها بحث آخر، لأن دونها الكثير من القيود والمخاطر.
على المستوى العملي، أكدت المواقف الرسمية الإسرائيلية وتحليلات الخبراء والمعلّقين أن على إسرائيل أن تَنظر إلى نتائج «طوفان الأقصى» بخطورة عالية جدّاً، كون العملية وضعتها على مفترق طرق مع قطاع غزة، والمنطقة. وكان المفهوم الاستراتيجي الإسرائيلي إزاء القطاع قد قام على اعتبار التهديد الذي تشكّله المقاومة هناك «تهديداً مُلحّاً»، ولكنه ليس الأكثر خطورة، وبالتالي ثمّة إمكانية لردعه واحتوائه، كما التعايش معه، عبر اتباع سياسة مدروسة، يأمل العدو في أن تؤدّي إلى إضعاف غزة وتقييدها، أو بالحدّ الأدنى الحفاظ على الوضع القائم فيها، بهدف التفرّغ لمواجهة التهديدات الأشدّ خطورة، الآتية من الشمال والشرق. إلّا أن «طوفان الأقصى» أسقطت هذا المفهوم (الاستراتيجي)، دافعةً قيادة العدو إلى البحث عن بلورة معادلة بديلة.
أصبحت الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في الحرب، عبر إرسال حاملة الطائرات «فورد»


ضمن هذه الرؤية تحديداً، أتى تأكيد إسرائيل أن عدوانها لن يكون عمليّة ولا جولة عسكرية، وإنما حربٌ صادق عليها المجلس الوزاري المصغّر، بكلّ ما يمكن أن يترتّب عليها من نتائج ومتطلّبات في الداخل الإسرائيلي. وسرعان ما تَرجم العدو ذلك بتدمير ممنهج وبارتكاب مجازر متعمّدة، متبعاً أمداً زمنيّاً مفتوحاً. وهو يريد بهذا أيضاً توجيه مجموعة رسائل، بعضها مفادها أنه ماضٍ في طريق تحقيق أهدافه مهما كانت الأثمان والقيود والمخاطر، وأخرى ردعية لـ«حزب الله». وفي خلفية تلك السياسة العملياتيّة، يريد العدو استعادة قدْر من الهيبة والصورة الردعية، ولذا، كان لا بدّ من حرب هدفها الرئيس القضاء على المقاومة، أو إضعافها بشكل جوهري وتالياً إخضاعها، على أن يتمّ السعي لتحقيق الغرض المذكور عبر عمليات قصف تدميري واسعة وارتكاب مجازر وصولاً ربما إلى شنّ عمليّة برّية.
على أنه لم يكن في مقدور إسرائيل انتهاج خيارات عملياتية دراماتيكية، من دون موافقة الولايات المتحدة ودعمها، وهو ما تحقَّق عبر التواصل المستمرّ بين رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي، جو بايدن، وتحذير الأخير، «أعداء إسرائيل»، من «استغلال الوضع». وفسّر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ما جاء على لسان رئيسه، بالقول إن «الرئيس كان واضحاً جداً منذ البداية... من الضروري أن نفعل كلّ ما في وسعنا لضمان عدم وجود جبهة أخرى في هذا الصراع، بما في ذلك حزب الله ولبنان». أمّا وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، فبيّن أن إرسال حاملة الطائرات، «فورد»، إلى شرق المتوسط، يهدف إلى «الردع الإقليمي»، وصولاً إلى تحذيره من فتح جبهة ثانية مع إسرائيل، في ما بدا معه وكأن الولايات المتحدة لم تكتفِ بمنح إسرائيل ضوءاً أخضر لشنّ عدوانها التدميري والدموي ضدّ غزة، بل أصبحت هي أيضاً طرفاً مباشراً في الحرب.