غزة | لا تتوقّف معاناة السكان في قطاع غزة على المحاولة المستمرّة لتوفير مكان سكن آمن للأحياء، إذ إن الأموات بحدّ ذاتهم أضحوا مشكلة كبرى، ففيما تضيق ثلاجات الموتى في المستشفيات المهدَّدة بانقطاع التيار الكهربائي في غضون يومين، بالمئات من جثامين الشهداء، التي لم يتعرّف إليها ذوو أصحابها بعد، تبدو مَهمّة دفن الشهداء الذين يتعرّف إليهم ذووهم شائكة أيضاً. وتبدأ رحلة المعاناة بخرق البروتوكول المتَّبع في القطاع لتكريم الموتى، حيث لم يَعد متاحاً نقل الشهداء إلى منازل ذويهم لإلقاء نظرة الوداع عليهم، ثمّ الصلاة عليهم في مساجد الأحياء، قبل التوجّه بهم إلى مقابر المدينة، بل الآن، يتعرّف الأهالي إلى أبنائهم الشهداء، ثمّ يصلّون عليهم في ساحة المستشفى، قبل أن تبدأ رحلة معاناة جديدة.الزميل ماهر العفيفي، الذي قضى ابن عمّه في صبيحة اليوم الثاني من الحرب، عايش تلك التجربة، إذ اضطرّ لتجنيد أفراد عائلته كلّهم للبحث عمّن يجهّز قبراً لقريبه الشاب. يقول ماهر، في حديثه إلى «الأخبار»: «لا يمكننا الدفن في مقبرة الشهداء الشرقية، لأنها تقع في نطاق القصف الجوي المكثّف، كما أن الوصول إلى مقبرة السلاطين الحدودية يعدّ مغامرة تنطوي على مخاطر كبيرة»، مضيفاً أنه «استغرق الأمر منّا ساعات للبحث عن قبر والدي لفتحه، ثم دفن ابن عمي فيه في مقبرة الشيخ رضوان، وتلك لم تكن مهمّة سهلة أيضاً، بسبب التهديد المستمرّ بقصف المقبرة».
أما المواطن محمد المبحوح، الذي استشهدت أخته فاطمة برفقة 7 من أبنائها في قصف طاول منزل عائلتها في المحافظة الوسطى، فقد اضطرّ للاتصال بالجهات الحكومية والأهلية كافة، للاستفسار عن الطرق الآمنة التي يمكن أن يسلكها بالسيارة، لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على شقيقته، وهو الذي يسكن محافظة شمال القطاع. يقول محمد، لـ«الأخبار»: «الطرق كافة في وسط المدينة مدمَّرة، والطرق الحدودية مثل صلاح الدين شرق القطاع والرشيد في الغرب، تتعرّض لقصف جوي على نحو مستمرّ (..) ليس مقبولاً أن تُدفن شقيقتي من دون أن نشارك في جنازتها. لقد غامرنا بحياتنا من أجل الوصول».
على أن الأزمة الأكثر خطورةً تتجاوز البروتوكول الاجتماعي وإجراءات الدفن، إذ إن مقابر القطاع المتاحة لاستقبال الموتى، مغلَقة أصلاً منذ سنوات، ولا توجد مساحة لحفر مزيد من القبور فيها، ما يضطرّ الأهالي لتكديس عدد كبير من الشهداء في قبرٍ واحد.
أمّا الكارثة الأكبر، فقد تبدأ في أيّ لحظة، مع نفاد كميات الوقود المتوافرة لتشغيل مولدات الكهرباء في غضون يومين اثنين، إذ من الممكن أن تتعرّض الجثامين للتحلّل والتعفّن، في ظلّ ارتفاع درجة الحرارة وتكدّس الشهداء في غرف ثلاجات الموتى.