في آخر الحرب، ستكون السياسة، هذا مما لا شك فيه، وهذا ما اعتاده التاريخ في كل الأحداث الكبرى. وما يجرب الاحتلال ارتكابه في قطاع غزة من مقتلة بحق الأهل هناك، سيجعل التاريخ يسجل أن هذه المعركة، إمّا أخذتنا مجدداً إلى مشروع وطني تحرري شامل ينخرط فيه الكل المنتصر للحق، وإما ستأخذنا إلى «نهاية» يمكن أن يعنونها السياسيون كما يشاؤون حينها. وبين الاحتمالين الأول والثاني، بون شاسع، ليس بمساحة فلسطين فقط، بل بمساحة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وأحرار العالم من جانب، والثقة التي يقيمها كل هؤلاء مع أصحاب القوة والخطابة التي تعد بإنهاء إسرائيل. وها نحن، وبينما أخطّ هذه المادة التي لن تقدم أو تؤخر، ولن تشفي جريحاً، ولن تعيد شهيداً، يقتل المزيد من الفلسطينيين في غزة، وتقصف منازل الشعب الفلسطيني هناك، وتدمر أرض الشعب الفلسطيني هناك، وتقوم المقاومة بدك الكيان، وتستعد لمزيد من المواجهة المحتملة، بطاقة وإرادة لم تعرفها فلسطين ولم يعرفها العالم في كل المواجهات السابقة. فبعدما كانت المقاومة تفاوض على أسير واحد لديها، اليوم تضرب بيدها على طاولة العالم، وترفض الحديث عن مئات الأسرى (ربما) لديها، قبل أن توقف إسرائيل عدوانها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.ولعل هذه الكتابة، أكتبها لأكون صادقاً مع نفسي، أن أكون قد قلت كلمة من أجل المستقبل الذي سيحاسب الجميع على ما فعل اليوم في هذه الحرب التي قد لا تنتهي خلال أيام أو أسابيع، وهي تقتل من جانبنا بمعدل يومي أكثر من 100 طفل فلسطيني، فيما يسجل عدّاد الشهداء حتى لحظة الكتابة هذه (عصر 10/15) أكثر من 2323 شهيداً و9042 جريحاً، بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، التي أكدت أن الاحتلال أباد 55 عائلة في قطاع غزة بشكل كامل.
إذاً، فالحرب القائمة، هي حرب إبادة للفلسطينيين في الداخل الفلسطيني كما يريد الاحتلال، وكما يعلن، إما بقتلهم، وإما بتهجيرهم خارج حدود فلسطين المحتلة. وفي حال نجاح إسرائيل وأميركا والمجتمع الدولي في تنفيذ هذا المخطط، وهذا بعيد جداً عن قدرتهما معاً، فإن الأمر ذاته سيحدث في باقي أنحاء الأرض، وبذلك تكون إسرائيل قد «صححت» خطأ عام 1948، حين لم تكمل تطهيرها العرقي لباقي الفلسطينيين، بحسب رؤية المؤرخ الإسرائيلي المرتد إلى الصهيونية بيني موريس الذي يقول: «لم تكن دولة إسرائيل ستقوم، بدون اقتلاع 700 ألف فلسطيني. كان اقتلاعهم ضرورة قصوى. لم يكن ثمة خيار سوى طرد السكان. كان لازماً تطهير أرض الميعاد، وتطهير المناطق الحدودية والطرق الرئيسيّة. وكان من الضرورة بمكان تطهير القرى، وتمهيد الأرض لقيام مستوطناتنا». وكما لم تنجح في عام 1948، لن تنجح اليوم، ولن تقدر على هزيمة شعب ثابت صموده صلب في أرضه ووجوده.
إنّ «الإبادة» هذه، التي يمكن استنباط نية الاحتلال القيام بها منذ تأسيسه وما قبله كقاعدة، ومنذ انطلاق المعركة أيضاً، ومن خلال وسم المقاومة الفلسطينية بـ«داعش»، هذه «الإبادة» التي يجرب الاحتلال أن تكون على الهواء مباشرة بدعم من البوارج الأميركية والبريطانية وغيرهما من دول الغرب المعنية بالحفاظ على «المستعمرة»، تعرض لنا، نحن الذين نتابع عبر الشاشات، لكنها بالنسبة إلى الأهل في غزة، فهي الموت، هي التهجير من شمال القطاع إلى جنوبه، حيث الموت. وفي أثناء هذا التهجير وهذا الموت، يجوّع الناس هناك، ويعطّشعون، ويمنع عنهم كل شيء، لئلّا يترك أمامهم خيار سوى طلب الخروج. لكنهم قالوا عبر الشاشات، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي حين يتاح لهم الإنترنت الذي قطعته إسرائيل أيضاً «لن نخرج وسنبقى في أرضنا». إذاً، هؤلاء، جسدنا الفلسطيني المتروك وحيداً إلا من بضع تعاطف وكتابة وتظاهرات تكبر يومياً في العالم، سيبقى صامداً في أرضه، يحمي القضية الفلسطينية من الإنهاء والبتر من التاريخ، هؤلاء وحدهم، مع بقية الفلسطينيين، وبقية المنخرطين في الجسد الفلسطيني، يمنعون تحويل فلسطين إلى اسم يمرّ في صفحات التاريخ.
ولعل شعبنا الفلسطيني الذي يتمسك بأرضه بالفعل والعمل، وليس بالشعارات والخطابات والرسائل الفارغة، هو وحده المنوط به تحرير أرضه، وهو وحده المحور لهذه الأمة التي وإن حددت بوصلتها بالكلام، إلا أنها على الدوام عينها على مكان آخر، إلا أن فلسطين تعيد الجميع إلى المكان الصحيح، إليها.

* كاتب فلسطيني