ليست مشاهد الحرب المتواصلة على غزة، منذ 10 أيام، إلا تجليةً لمذبحة جديدة تمارسها إسرائيل على مرأى العالم، وتأمل أن يكون وقعها مشابهاً لنكبة 1948 التي طُرد في خلالها أكثر من 750 ألف فلسطيني حين أنشئت «دولة» الاحتلال، أو نكسة 1967 التي أدّت إلى احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وتهجير 350 ألف فلسطيني. وإذ لا ينكر قادة العدو، اليوم، هدفهم المتمثّل اليوم في «محو غزة»، بعدما تحوّلت إلى عقبة كبرى في وجه المخطّطات الإسرائيلية، ومصدر تهديد لأمن الكيان، فإنهم يتطلّعون إلى تهجير ما لا يقلّ عن مليون فلسطيني في شمال القطاع، وسط استمرار الغارات الجوية التي قتلت أكثر من 2500 مدني.هذا المشهد الذي يراه العالم عارياً، لهو كفيل بفضح ذلك الاحتلال الذي يقدّم نفسه على أنه «واحة الشرق الأوسط الديموقراطية»، وضحية لـ«الإرهاب». لكنّ ازدواجية المعايير لدى الغرب، الذي جنّد كل طاقاته العسكرية والسياسية والإعلامية في سبيل دعم هذه الحرب، تستمرّ في تصدير إسرائيل بوصفها كياناً فوق القانون، وتمنحها الحقّ في أن تقتل بدم بارد، من دون الخضوع لأي مساءلة أو محاكمة أو حتى ضبط، بل وحتى أن تعرقل جهود الجهات الصحية والإغاثية وطواقم الإسعاف، وتستخدم الأسلحة المحرّمة دولياً ضدّ العُزَّل، في ما يمثّل بوضوح جريمة إبادة جماعية. جريمةٌ تُضاعف من وقعها أيضاً الصعوبة البالغة في إخلاء الجرحى وانتشالهم من تحت الأنقاض، بفعل الحصار الإسرائيلي المطبق على غزة، ومنع إدخال الإغاثة عبر معبر رفح، وقطع إمدادات الوقود والكهرباء عن القطاع.
وإذ تتوالى المواقف الإقليمية والدولية الرافضة لهذه الجريمة، بدءاً من الدول العربية، مروراً بإيران التي حذّرت على لسان وزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان، من أنه «لا أحد يمكنه ضمان السيطرة على الوضع»، في حال «تواصلت هجمات النظام الصهيوني على السكان العُزَّل في غزة»، وروسيا التي دعت إلى «وقف إطلاق النار»، وصولاً إلى الصين التي يصل مبعوث حكومتها إلى الشرق الأوسط، تشاي جون، إلى المنطقة الأسبوع المقبل للدفع في اتجاه وقف لإطلاق النار، فإن الوكالات الدولية، ومن بينها وكالات الإغاثة وتلك التابعة للأمم المتحدة و«اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، لم تستطع أمام هذا العقاب الجماعي، إلا أن ترفع عقيرتها، ولو بنبرات متفاوتة. وكانت الأمم المتّحدة قد أعلنت أن أكثر من 423 ألف شخص أُجبروا على الفرار من منازلهم في قطاع غزة، وأن «أكثر من 270 ألف شخص من هؤلاء، أي ثلثي النازحين، لجأوا إلى مدارس تديرها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)». وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، بدوره، إن «5544 وحدة سكنية» دُمرت، فيما أصيبت حوالى 3750 وحدة أخرى بأضرار جسيمة إلى حدّ لم تعد معه قابلة للسكن. وأعلن «الصليب الأحمر»، من جهته، أن «الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر رُوِّع جراء مشاهدة البؤس الإنساني خلال الأسبوع الماضي في إسرائيل وغزة (في ما يمثّل مساواة مضلّلة)»، فيما حثّ الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إسرائيل على «تجنب وقوع كارثة إنسانية»، قائلاً إن «الوضع في غزة وصل إلى مستوى خطير»، مضيفاً أن «حتى الحروب لها قواعد».
مقرّرة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في غزة: المسؤولون الإسرائيليون دعوا علانية إلى «نكبة أخرى»


على أن التصريح الأكثر أهمية، جاء على لسان المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنيّة بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، التي قالت إن الجرائم الإسرائيلية «قد تجاوزت حدود القانون الدولي. ويجب على المجتمع الدولي أن يوقف هذه الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الآن، قبل أن يتكرّر التاريخ المأساوي»، مشيرة إلى أن المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين دعوا علانية إلى «نكبة أخرى». وأضافت أن إسرائيل «نفّذت بالفعل تطهيراً عرقياً جماعياً للفلسطينيين تحت ضباب الحرب». وتابعت أنه «يجب على الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها تكثيف الجهود للتوسط في وقف فوري لإطلاق النار»، وذلك «قبل أن نصل إلى نقطة اللاعودة»، محمّلة «المجتمع الدولي مسؤولية منع الجرائم الفظيعة وحماية السكان منها»، ولو أنها ساوت بين الضحية والجلاد، بقولها إنه «يجب أيضاً متابعة المساءلة عن الجرائم الدولية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي وحماس».
أما أوروبياً، فاعتبر وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، السبت الماضي، أن دعوة إسرائيل إلى إجلاء أكثر من مليون فلسطيني من شمال غزة خلال يوم واحد أمر «مستحيل تماماً تنفيذه»، إلا أنه لم يُدِن الأمر. وأضاف أن «الموقف واضح، إننا ندافع بالتأكيد عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها... لكن كأي حق آخر، هذا له حدود، وهذه الحدود هي القانون الدولي». وحثّت منظمة «أطباء بلا حدود»، من جهتها، إسرائيل على «التحلي بالحدّ الأدنى من الإنسانية»، مشيرة إلى أن إنذار الإخلاء الذي أصدرته في «منطقة مكتظّة بالسكان أصلاً، مع صعوبة شديدة في الحصول على الغذاء والماء والرعاية الصحية، هو أمر غير معقول وغير مقبول». وأضافت: «بينما يقصف الجيش الإسرائيلي قطاع غزة دون ضبط للنفس منذ أسبوع، فإننا ندعوه إلى التحلي بالحد الأدنى من الإنسانية». وعبّرت المنظمة، التي تتخذ مقراً لها في جنيف، عن قلقها «بشأن مصير من لن يتمكّنوا من التنقل، مثل الجرحى والمرضى والطواقم الطبية، الذين نخشى أن تتم إبادتهم»، داعية إلى وقف لإطلاق النار. وإذ طالبت بإتاحة إمكانية الفرار عبر معبر رفح لمن يرغب بذلك، فقد شدّدت على عدم «المساس بحق العودة».
وفي اليومين الماضيين، خرجت تظاهرات في عدة مدن غربية مندّدة بالعدوان الإسرائيلي، كان أبرزها في الولايات المتحدة وألمانيا، حيث اعتدت الشرطة على المتظاهرين. أما في العاصمة الإيرلندية دبلن، فخرجت تظاهرة حاشدة نصرةً للشعب الفلسطيني، طالب المشاركون فيها بوقف حرب الإبادة الجماعية، وحماية أهالي القطاع، وفتح الممرات الإنسانية للغذاء والماء والدواء وبشكل فوري وسريع. وتخلّلت التظاهرة، التي شاركت فيها الجاليات العربية ولجنة التضامن الإيرلندية ونقابات عمالية وأحزاب يسارية، كلمة لعضو البرلمان الإيرلندي، رئيس حزب «الناس قبل الربح»، طالب فيها العالم الحر بالضغط على إسرائيل لوقف العدوان على غزة، مندّداً بالرواية الإسرائيلية المخادعة، وانسياق وسائل الإعلام الغربي خلفها في محاولة لتبرير قتل الأبرياء من شعب فلسطين.