وفي مقابل مَن نزحوا، يتمسّك مئات الآلاف من المواطنين بمنازلهم والبقاء في أحيائهم، ويفضّلون الموت على الرحيل، وخاصّة أنه لا يوجد مكان يذهبون إليه، في حين تُطلق المساجد نداءات تدعو الغزيّين إلى التمسّك ببيوتهم والتشبّث بأرضهم، وخصوصاً بعدما تعرّضت الطرق الآمنة التي أعلن عنها جيش الاحتلال، لقصف متعمّد، وباتت بمثابة فخاخ موت جماعي. ويركّز جيش العدو عملياته على منطقة شمال غزة، وقد صبّ، طوال الأيام التسعة الماضية، آلاف الأطنان من المتفجّرات فوقها، ماسحاً عشرات الأحياء بكاملها. وبالتالي، فإن دعوته الأهالي إلى النزوح من الشمال إلى الجنوب، قد يكون هدفها المرحلي التمهيد لاجتياح برّي واسع لتلك المنطقة، يحشد العدو مئات الآلاف من جنوده لتنفيذه. وفي حال تَحقّق هذا السيناريو، فإن شمال غزة لن يكون صالحاً للعيش قبل إعادة بنائه من جديد، ما سيمنع الأهالي من العودة إلى منازلهم التي تحوّلت إلى ركام، وسيخلق واقعاً صعباً عليهم، في ظلّ انعدام المستلزمات الأساسية للحياة، كالغذاء والمياه والوقود.
تبدي مصر، إلى الآن، موقفاً صارماً برفضها التامّ فكرة تهجير أهالي قطاع غزة إلى شمال سيناء
لكن الهدف الاستراتيجي الذي تطمح إليه إسرائيل، هو خلْق ما يشبه نكبة جديدة، أو تنفيذ تطهير عرقي، عبر تهجير مئات الآلاف إلى سيناء، وهي ترى أن ذلك يمكن أن يتحقّق إذا ما زادت صعوبة حياة أولئك النازحين وتمّ حرمانهم من المساعدات، ما قد يدفعهم للتوجّه إلى مصر في حال توفّرت لهم خيام الإيواء والمساعدات الغذائية، وخصوصاً في ظلّ ضغط دولي كبير يُمارس على القاهرة. وفي هذا الإطار، قال نائب وزير خارجية الاحتلال الأسبق، داني أيالون، في مقابلة تلفزيونية، إن «على سكّان غزة مغادرة القطاع، والتوجّه إلى صحراء سيناء، ومن ثمّ على مصر أن تستقبلهم هناك في مدن يتوفّر فيها الغذاء والمياه، إذ إن هناك مساحة لذلك»، مضيفاً: «يستطيعون أن يعيشوا في مناطق مفتوحة، وسنقوم نحن والمجتمع الدولي بإعداد البنية التحتية وبناء 10 مدن من الخيام وإمدادهم بالطعام والمياه. هناك طريقة لاستقبالهم في الجانب الآخر (صحراء سيناء)، ونحن لا نقول لهم اذهبوا إلى الشواطئ وأغرقوا أنفسكم، إنّما نريد فتح ممرّ إنساني حتى يتمكّنوا من المغادرة، وعلى مصر أن تلعب دوراً فعّالاً في ذلك».
من جهتها، تدعم الولايات المتحدة خطّة الإخلاء الإسرائيلية، ضمن الضوء الأخضر الممنوح لحكومة بنيامين نتنياهو، والشيك المفتوح بالدعم والمساعدات، على الرغم من إجماع الموقف الدولي على رفض الخطّة الإسرائيلية التي تُعدّ انتهاكاً لحقوق الإنسان والقوانين الدولية، وتترتّب عليها مخاطر عالية لجهة احتمال استشهاد آلاف المواطنين، وخاصّة أنها تشمل إخلاء المستشفيات. ويدرك الفلسطينيون، بدورهم، أبعاد المخطّط الإسرائيلي، وهم الذين جرّبوا النكبة والتهجير قبل 75 عاماً، ومنذ ذلك الوقت، وهم يقاتلون من أجل العودة. ومن هنا، جاء الموقف الصارم برفض التهجير، والذي عبّر عنه رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، قائلاً إن «أهل غزة متجذّرون في أرضهم ومتمسّكون بوطنهم ولن يخرجوا منه»، مضيفاً: «لا هجرة من الضفة ولا من غزة، وأقول لا هجرة من غزة إلى مصر، وأحيّي الأشقاء في مصر، وأقول لهم إن قرارنا أن نبقى في أرضنا، وإن قراركم هو قرارنا». وهو الموقف الذي تبنّته السلطة الفلسطينية أيضاً على لسان رئيس الحكومة، محمد اشتية، الذي قال إن «اللجوء الذي حصل عام 1948 لن يتكرّر (...) شعبنا لن يغادر أرضه، ومنذ عام 1950 وإسرائيل تحاول توطين اللاجئين في الدول العربية، واليوم تحاول توزيع سكان قطاع غزة على دول العالم».
وتبدي مصر، إلى الآن، موقفاً صارماً برفضها التامّ فكرة تهجير أهالي غزة إلى شمال سيناء، حتى ولو بشكل مؤقّت، وخصوصاً أن ذلك سيخلق بالنسبة إليها تحدّيات كبيرة، تُضاف إلى ما تواجهه أصلاً. وعلى هذه الخلفية، أفادت مصادر عبرية بأن العلاقات بين إسرائيل ومصر وصلت إلى نقطة حرجة، إذ قال التلفزيون العبري إن «الحرب الحالية تضع مصر أمام ثلاثة تحديات، على الأقلّ لم تواجه بعضها من قبل: أولها، الخشية من أن الآلاف وربّما المزيد من الفلسطينيين (من أصل 2.2 مليون نسمة) سيرغبون في الفرار من القطاع في اتّجاه سيناء عبر معبر رفح، في ظلّ ازدياد الأفكار المتداولة في بعض الدول الغربية في شأن توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء؛ والثاني، المسّ بمكانة مصر ودورها في القضيّة الفلسطينية مع تدخّل دول أخرى مثل قطر وتركيا؛ والثالث، حاجة القيادة المصرية إلى تهدئة الرأي العام الذي يدعم الفلسطينيين».