ينتظر اللبنانيون تعليمات السفارات الغربية لمواطنيها لاستشراف احتمالات الحرب والسلم، في ظلّ تسليم بأن لبنان الرسمي لا يملك مفتاح الوضع وأسرار الميدان العسكري. إلى هذه النقطة، يبدو الأمر مقبولاً بالحد الأدنى، لكنّ تدهور الأوضاع في غزة، ومستوى الحشد السياسي الدولي والإقليمي، يظهران منذ اندلاع المواجهات حجم غياب الإيقاع اللبناني الرسمي. فأيّ لبنان موجود اليوم فعلياً على طاولة القرارات الدولية والإقليمية، خصوصاً أن زيارات الموفدين الغربيين، لبيروت لا تزال ضمن إطار استطلاعي ليس أكثر، ومن جانب عواصم لا تملك تأثيراً مباشراً على مجريات الحدث الفلسطيني، كباريس التي لا تقدّم زيارة رئيسة دبلوماسيتها لبيروت ولا تؤخّر، وقد سبق لفرنسا أن حضرت بكثرة في ملفات حروب لبنانية سابقة من دون أن تكون لها كلمة فصل رئيسية.من النادر أن يعبّر أي وزير للخارجية، كما وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، عن جوهر المفاوضات الجارية بقوله صراحة: «إذا لم ندافع عن غزة اليوم فعلينا أن ندافع عن مدننا غداً». هذه العبارة تلخّص ما يدور في كواليس العواصم التي تقود عادة طرق التفاوض، إذ إن القطبة الأساسية هي محاولة «قضم أذرع إيران في المنطقة إما بالجمع أو بالمُفرَّق». وهذا تماماً ما تسعى إيران إلى تفكيكه، انطلاقاً من غزة ووصولاً إلى لبنان. فمنذ اندلاع الحرب كان السؤال المركزي، محلياً وإقليمياً، إلى أي مدى ستسمح طهران بالقبض على «حماس»؟ وما هي الخطوة التالية إذا سمحت بذلك، مع علمها أن حزب الله هو التالي، وكذلك مجمل التنظيمات والأنظمة المتحالفة معها في ساحات المواجهة؟
من الجانب الإسرائيلي، كان هناك تباين - ولا يزال - حول الخطوة المقبلة بعد غزة، على افتراض نجاح إسرائيل في إحكام قبضتها عليها لجهة إبقاء الحدود الشمالية مفتوحة على احتمالات يقودها حزب الله من دون رادع. ورغم أن واشنطن تحكّمت، حتى الساعة، بإبعاد الحرب عن لبنان، إلا أن هناك جانباً آخر للمشهد السياسي - العسكري، وليس بالضرورة أن يكون خارج رغبة إيران.
إن تمركز دوائر القرار الأميركية اليوم في المنطقة على اختلاف مستويات ممثّليها، في وقت كانت واشنطن أخلت المنطقة سياسياً منذ شهور وحتى سنوات، لا يترك انطباعاً بأن المقصود هو وقف حرب غزة وتبعاتها حصراً، إذ لا يزال توقيت عملية «حماس» محور متابعة غربية، وصلته بالموقف السعودي التطبيعي مع إسرائيل، في وقت تتكشّف تباعاً تفاصيل غير معلنة وتشابكات كثيرة، ليس بالضرورة أن تنتهي مع حرب غزة. ثمّة كلام يقال عن أن ما صيغ سعودياً وإسرائيلياً من الصعب تخطّيه، حتى مع حرب غزة، وسط استعادة كلام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن القضية الفلسطينية وعن أن الحل «لتحسين حياة الفلسطينيين». وهذا ينقل المفاوضات التي تجري إلى مرتبة أخرى لا تتعلق فقط بمعالجة وضع غزة الحالي، بل إلى طرح القضية الفلسطينية من رؤية السعودية التي لم تقفل الباب عليها.
القطبة الأساسية هي محاولة قضم أذرع إيران في المنطقة بالجمع أو بالمُفرَّق


هذا يعني أن الحوار الإقليمي والدولي فُتح على عناوين تفاوض واسع أميركي - سعودي - إسرائيلي. أما دور إيران فيه، فبالنسبة إلى لبنان هو محوري، لأن أي تفاوض ستخوضه طهران، على أهمية «حماس» في موقعها الحالي، لا يمكن إلا أن يكون لبنان ورقته الأساسية، حيث لها النفوذ الأوحد. ومهما كان عنوان توحّد الساحات مركزياً، فلن تفرّط في دور الحزب في لبنان والمنطقة. ففي نهاية الأمر، هي ليست لاعباً أولَ في غزة التي لمصر فيها حضور من الدرجة الأولى، كما هي حال الأردن في الضفة الغربية، لا تشاركه فيه إيران أو قطر، مهما ارتفعت نسبة تورّطهما في غزة بحسب ما تمليه الظروف الموضوعية. لذا يمثل لبنان نقطة تفاوض إستراتيجية، ويثير ذلك خشيةً سياسية من أن يكون ورقة مقايضة مقابل غزة. والخشية من المقايضة تصبح مشروعة في وقت لا وجود للبنان الرسمي على طاولة التفاوض الحقيقية، ولا يمثله حتى الآن سوى إيران التي في حال قرّرت إجراء ترتيبات تتخطّى التفاهم الذي أبرمته مع السعودية قبل أشهر، فإن مصالحها الإستراتيجية تتعلق بالحفاظ على حزب الله أولاً وآخراً. هنا، يمكن الانتقال إلى المشهد السياسي الآخر، في حال تكرّست هذه المعادلة، برضى أميركي مقابل إعادة الاستقرار إلى الشمال الإسرائيلي، والذهاب بغزة إلى مشروع إقليمي جديد. فلبنان اعتاد هذه التسويات كما حصل بعد الطائف، والكلام الأميركي عن استقرار لبنان قد يعادله تأمين الاستقرار على مسافة كيلومترات من بيروت، في إطار أشمل. لذا يمكن الانتقال إلى توقّع ما يمكن أن تسفر عنه هكذا ترتيبات، من ترجمة عملية، واستطراداً كيف يمكن لخصوم حزب الله التعامل مع متغيّر كبير من هذا النحو لم يشهده لبنان منذ سنوات؟ فالانتقال من مقولة «حرب غزة ستطاول حزب الله حكماً، سلماً أو حرباً»، إلى مقولة «ترتيب غزة مقابل بقاء حزب الله»، سينتج تداعيات كثيرة، لا تجد حتى الآن صدى لدى القوى السياسية ولبنان الرسمي، إذ تقتصر مواكبة هؤلاء على الدعوات إلى عدم زجّ لبنان في الحرب. فيما النقاش الحقيقي يدور في أروقة أخرى.