في الفيديو الذي التُقط لحظة سقوط الصاروخ المجزرة في باحة المستشفى، يقول رجلٌ في الخلفية إنّهم «ضربوا المستشفى الإنكليزي». على شاشات التلفزيون والحاسوب والهاتف، اسم المستشفى تنوّع بين «الأهلي» و«المعمداني» و«العربي» أو مزيج من هذه الأسماء. تاريخ فلسطين مجبول بهذه الأسماء ويمتد إلى ما قبل الإنكليز بقرون، وإلى ما قبل العرب ويوحنا المعمدان حتّى.الوصية الثامنة من الوصايا العشر الواردة في سفر الخروج من العهد القديم توصي بما يأتي: لا تشهد على قريبك شهادة زورٍ. قد يظن المرء أنه في الأراضي المقدّسة تزداد قدسيّة ما أوصى به الكتاب المقدّس لدى المسيحيين واليهود، لكن شهادة الزور التي أدلى بها الفرعون المحنّط الأميركي جو بايدن أمام الكاميرات على مقربة من وكيله الفاشل والفاشي في أرضنا توحي بأن القتلة لا يأبهون. سفر الخروج طبعاً يروي خروج موسى باليهود من مصر الأهرامات إلى جبل موسى في جنوب سيناء، لكن إحداثيّات مسار الخروج ليست مؤكّدة، إذ نتحدّث عن زمن سابقٍ لنظريات الأرض المستديرة، التي كان العالِم الإغريقي فيثاغورس أوّل من اقترحها، بحوالي ألف عام، ولنظام الـ GPS بأكثر من ثلاثة آلاف من الأعوام. يدور الحديث حول أن «إسرائيل» تعمل على التشويش على نظام تحديد الموقع العالمي هذا في شمال فلسطين المحتلّة (مؤقتّاً) من أجل أن تضلّ صواريخ المقاومة اللبنانية ومسيّراتها طريقها إلى أهدافها متى حان حين إطلاقها. لكنّ الأكيد هو أنه لم يكن هنالك أيّ تشويش في وسط غزّة، حيث أصاب صاروخٌ وسط باحة المستشفى المعمداني.
ضريح رأس القدّيس يوحنا المعمدان، أو النبي يحيى بالنسبة إلى المسلمين، موجود في الجامع الأموي في دمشق، وفي ثلاث كنائس تتوزّع بين إيطاليا وفرنسا وألمانيا. لا نقول إنهم يكذبون عن رؤوس مقطوعة عن أجسادها كما فعل الإسرائيليون وصدّقهم جو بايدن، لكن في التاريخ هناك التباسات كثيرة، وخاصة حول مقامات الأنبياء والقدّيسين ومقتنياتهم، إذ معظمهم لم يبنِ أهرامات لا لبس في من يقطنها ميتاً. في عالم المقامات، لطالما أدّت السياسة وتوازن القوى والبروباغندا دوراً في تحديد أيٍّ من الرؤوس أو الهياكل هي الحقيقية، وأيّ منها مجرّد تشابه أسماء، وهناك حائطٌ في القدس شاهدٌ على ذلك. طبعاً، لا نتحدّث هنا عن جدار الفصل على امتداد الضفة الغربية لنهر الأردن ولا عن السياج المخروق المحاصِر لغزة. حائط البراق أو الحائط الغربي لحرم المسجد الأقصى حجّة تتردّد عن سبب اختيار أرض فلسطين وطناً للصهاينة الطامحين بوطنٍ لليهود، كونهم يحاججون أنه ما تبقّى من هيكل الأول أو البيت المقدّس. قد يبدو أن المنطقة تعاني من طوفان قداسة، لكن ما ذكر حتى الآن غيضٌ من تاريخ مهد الحضارة الإنسانية حيث نسكن. وقد يتفاجأ البعض بأن مؤسّس الحركة الصهيونية لم يكن يعنيه فيض القدسية التاريخية في المنطقة.
في أطروحته حول «الدولة اليهودية»، يتناول مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل في فقرة مسألة موقع دولته المفترضة. الفقرة هي بعنوان «فلسطين أو الأرجنتين؟» يقارن هرتزل بين الخيارين، الأرجنتين «ذات الأراضي الشاسعة التي هي من الأكثر خصوبة في العالم». الأرجنتين «ذات عدد السكان القليل والطقس المعتدل والتي سوف تكسب أرباحاً كبيرة من بيع جزء من أراضيها لنا». وفلسطين «وطننا التاريخي»، «اسم فلسطين وحده سوف يجذب شعبنا». «إذا أعطانا جلالة السلطان [عبد الحميد الثاني] فلسطين… فسوف نشكّل جزءاً من متراس أوروبا في وجه آسيا، قاعدة أمامية للحضارة مقابل الهمجيّة». لم يتغيّر الخطاب كثيراً مع مرور الزمن، لكن من أدّى دوراً كبيراً في دفع هرتزل «العلماني» نحو الخيار الثاني كان مرشده، الذي فتح له أبواب الرؤساء والملوك والسلاطين، القسّ الألماني ويليام هشلر من الكنيسة الإنكليكانية. نعم نفس الكنيسة التي تدير «المستشفى الإنكليزي المعمداني الأهلي العربي».
مات هرتزل قبل وعد بلفور، لكن المشروع الصهيوني الإنكليزي استمرّ على أرض فلسطين. في بحرنا اليوم، سفنٌ بريطانية ترافق سفن أميركا لتحمي شهادة زورٍ تاريخية. خروج موسى من مصر استمرّ أربعين عاماً. خروج إسرائيل من التاريخ اقترب أربعين عاماً مع معمودية الدم التي شهدتها باحة المعمداني.

* من أسرة «الأخبار»