انتصرت تركيا لغزة بعد مجزرة مستشفى "المعمداني"، من دون أن تغادر، شأنها شأن الدول العربية والإسلامية، مربّع التصريح والاحتجاج والإدانة. وفي هذا الوقت، خرجت احتجاجات شعبية في كلّ المدن التركية، للتنديد بالمجزرة الوحشية في المستشفى التابع للكنيسة الأنغليكانية، وللمطالبة باتّخاذ إجراءات ضدّ إسرائيل، في ضوء همجيّتها المتواصلة. كذلك، تداعى البرلمان التركي إلى اجتماع عاجل، لتُصدر كُتله البرلمانية الرئيسة بياناً يصف المجزرة بأنها "جريمة حرب ضدّ الإنسانية"، داعياً "المجتمع الدولي" إلى "اتّخاذ مبادرات لوقف هذه الوحشية"، فيما أكّدت الخارجية التركية أنه "لا مفرّ من محاسبة أولئك الذين قاموا بهذه المجزرة". وتبارى المسؤولون في إدانة المذبحة التي وصفها الرئيس رجب طيب إردوغان بأنها "غير مسبوقة"، داعياً البشرية إلى التحرّك لوقف المجازر. أمّا زعيم "حزب الشعب الجمهوري"، كمال كيليتشدار أوغلو، فوصف المجزرة بأنها "جريمة ضدّ الإنسانية"، في حين قالت زعيمة "الحزب الجيّد"، مرال آقشينير، إن "إسرائيل ترتكب إرهاب الدولة". أيضاً، اعتبر زعيم "حزب الديموقراطية والتقدّم"، علي باباجان، ما جرى "جريمة حرب معلنة"، بينما دان "حزب الشعوب للمساواة والديموقراطية" (الاسم الجديد لـ"حزب الشعوب الديموقراطي" الكردي)، بدوره، الجريمة.وفي الإطار نفسه، كتبت صحيفة "قرار" التركية، في افتتاحيتها، أن "إسرائيل ترتكب المجازر تحت الحماية الأميركية"، وأن "الدعم الأميركي، ومنْع أوروبا الاحتجاجات على ما ترتكبه تل أبيب، وزيارة بايدن، عوامل شجّعت إسرائيل على ارتكاب المزيد من المجازر". وفي الصحيفة نفسها، اعتبر محمد أوجاقتان أن "غزة كانت شاهدة على عجز العالم الإسلامي، وعلى رأسه تركيا، عن ردع عصابة الحرب في إسرائيل. فيما لم تنعكس أمام العالم صورة تركيا السابقة المؤيّدة للمظلومين". وممّا يؤسَف له، وفق الكاتب، أن "تركيا لم تكن في أيّ يوم من قبل، بمثل هذا الضعف الاقتصادي والدبلوماسي والحقوقي الذي هي عليه الآن. كلّ الجهود التي بذلتها سابقاً لتكون على علاقات جيّدة مع الجميع، لم تجد صدًى لها، وستحتاج إلى وقت طويل لتستعيد خسائرها الجديدة".
وتَنظر تركيا بقلق إلى ما يجري في المنطقة بعد عمليّة "طوفان الأقصى"؛ فالسياسات التي انتهجتها، في السنوات الثلاث الأخيرة، في اتّجاه تطبيع العلاقات مع "خصومها"، ومن بينهم إسرائيل والسعودية والإمارات ومصر، قطعت فيها شوطاً كبيراً، معيدةً تموضعها بما يرضي الغرب. ولهذا ربّما، تواجه تركيا حرجاً كبيراً في الموقف من العدوان الإسرائيلي على غزة؛ ومع أنها حاولت، إلى الآن، ألّا تكسر مسار العلاقات مع إسرائيل، من خلال اتّخاذها موقفاً محايداً من الصراع، غير أن انتقال دولة الاحتلال إلى سياسة الإبادة والأرض المحروقة في غزة وسقوط آلاف الضحايا، وضعا إردوغان في موقف لا يُحسد عليه، على رغم أنه لم يبادر، إلى الآن، إلى أيّ تدبير أو إجراء، ولو شكلي، للضغط على إسرائيل. ويعني ما تقدّم أحد أمرَين: إمّا أنه لا يريد، وإمّا أنه عاجز؛ وفي الحالتَين، تبدو تركيا كما لو أنّها خسرت ورقة التعاطف مع الشعب الفلسطيني، وهو ما سيؤثّر سلباً على صورتها كـ"نصيرة للشعوب المظلومة"، في العالمَين العربي والإسلامي. كذلك، تنظر أنقرة بعين القلق إلى احتمال تصاعد الأوضاع في الشرق الأوسط، والتداعيات السلبية التي سيرخيها على الاقتصاد التركي. ويزيد من حدّة القلق أن تركيا كانت دخلت، بعد انتخاب إردوغان رئيساً، في 28 أيار الماضي، في خطّة تقشّفية وزيادة ضرائب، من أجل تصحيح الوضع الاقتصادي، ولم تكن لتتخيّل أن تندلع حرب بهذا الحجم والعنف في المنطقة، وتؤدّي إلى مضاعفة الضغط على الاقتصاد، ولاحقاً على الحركة السياحية.
ووفق الباحث فاتح أوزأتاي، فإنه إذا استمرّ مناخ الفوضى في الشرق الأوسط بسبب الحرب الدائرة، فإن مخاطر حصول أزمة في ميزان المدفوعات ستكون كبيرة على صعيدَي النفط والتمويل. فسعر برميل النفط انخفض من 72 دولاراً في نهاية أيار، إلى 64 دولاراً عشيّة عمليّة "طوفان الأقصى". أمّا عجز ميزان المدفوعات، فبلغ في الثمانية أشهر الأولى من العام الجاري، 43 مليار دولار، تمّت تغطية 22 ملياراً منها، فيما جرت تغطية المبلغ الباقي من احتياطات "المركزي". ويقول الباحث إن تركيا، وفي ظلّ الفوضى واحتمال استمرارها وقتاً طويلاً، تبدو أمام احتمال تقلّص حجم المال الذي يدخل إليها، ومنه المال الخليجي. ويضيف أوزأتاي أن القلق يزيد من انحراف الإنفاق مع اقتراب الانتخابات البلدية، مبيّناً أنه على الرغم من كلّ إجراءات التقشّف وفرض الضرائب، فإن عجز الموازنة سيكون مضاعفاً في الأشهر المقبلة، والتضخّم سيكون مرتفعاً ليصل إلى أكثر من 70% في العام المقبل. وليس مستبعداً، بحسب الكاتب، زيادة الفائدة من 30% حالياً، إلى 40%، لكبح جماح التضخّم. وإضافةً إلى كلّ ذلك، فإن الظروف في المنطقة والعالم لا تعمل لمصلحة تركيا، ومنها انفجار الصراع بين إسرائيل و"حماس"، وارتفاع معدّلات الفائدة في البنوك المركزية العالمية. أيضاً، هناك خطر انخفاض النمو في منطقة الاتحاد الأوروبي، والذي يصل إلى دوله القسم الأكبر من الصادرات التركية.
التطوّرات الأخيرة في فلسطين تطرح علامات استفهام حول إمكانية إنشاء «الممرّ الهندي»


وفي المقابل، "ربّ ضارة نافعة"؛ والمقصود هنا، تأثير انفجار الحرب على "الممرّ الهندي"، المارّ من الهند بحراً إلى الخليج، فبرّاً إلى عسقلان المحتلّة، ثم بحراً إلى اليونان ومنها إلى أوروبا، والذي عبّرت تركيا عن قلقها من كونه لم يلحظها كإحدى محطّاته، على رغم مواقفها الممالئة للغرب في الأشهر الأخيرة. فالخطّ الذي أراد القائمون عليه، منافسة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، يواجه صعوبات متعدّدة، ليس آخرها انفجار الصراع في غزة. ولفت أكاديميون أتراك، في هذا الإطار، إلى أن التطوّرات الأخيرة في فلسطين تطرح علامات استفهام حول إمكانية إنشاء "الممرّ الهندي"، إذ تقول الأستاذة في جامعة "نيشان طاش" في إسطنبول، فيشني قرقماز، إن "الولايات المتحدة تحاول أن تَستخدم الممرّ كوسيلة لتشجيع التطبيع بين إسرائيل والسعودية. ومع انفجار الحرب، باتت الرغبة الأميركية فارغة وتأجَّل التقارب بين تل أبيب والرياض إلى ربيع آخر. وما عاد ممكناً إحياء الخطّ الهندي إلّا بحلّ المشكلة الفلسطينية". وبحسب قرقماز، فإن "الولايات المتحدة تسعى الآن للقول "أنا هنا". ولكن بهجوم واحد، فهم الجميع أن تحقيق الأمن للخطّ غير ممكن، وامّحت أيّ قاعدة واقعية للمشروع. والآن، يمكن القول إن المشروع أصبح خياليّاً. وفي ظلّ هذا المناخ، يصبح الحديث عن الخطّ مثار ضحك. فكيف يمكن إسرائيل غير الآمنة وغير المستقرّة، أن تقدّم ضمانات الأمن والبنية التحتية".
أمّا الأستاذ في جامعة "بايكوز" التركية، بوراك كونتاي، فيقول إن "الممرّ الهندي المؤدّي إلى أوروبا، هو مشروع طويل الأجل، ومن غير الممكن تصوُّر أنه سيتحقّق بين ليلة وضحاها"، مضيفاً أن "تطبيق المشروع من زاوية حصّة كلّ دولة من الكلفة، صعب. إن الحرب القائمة ليست سبباً لتغيير جذري في بنية المشروع ومحطّاته الرئيسة، لكن قد يتأجّل المشروع على المدى القصير. وفي المقابل، ستكون تركيا صاحبة بنية يمكن من خلالها تطبيق خطّة "طريق التنمية" المارّ في العراق، وهو على صعيد الكلفة أو المسافة له ميزات عديدة، تفوق تلك الخاصّة بالممرّ الهندي".
من جهته، يرى الأستاذ في جامعة "مرمرة"، براق أرزوفا، أن "الحرب التي أعلنتها إسرائيل تجعل التجارة البحرية والبرية في شرق المتوسط غير آمنة، فيما يؤثّر تصاعُد التوتّر في المنطقة سلباً على التجارة في ميناء حيفا، وهو من أهمّ نقاط التقاطع في التجارة العالمية، وفيه تمرّ السفن الداخلة إلى قناة السويس والخارجة منها. وتعرّض الميناء لخطر ينعكس على حركة النقل البحري ويعرّضها للتوقّف". ويرى المراقبون أن تركيا، في المقابل، تتّصف بمزايا كثيرة لتكون نقطة تقاطع مشاريع الشرق- الغرب والشمال - الجنوب، ولا سيما على صعيد البنية التحتية والخبرة والأمن والاستقرار. وربّما سيكون "طريق التنمية" الخطّ الأكمل لاستقبال البضائع من الهند إلى منطقة الخليج، ومنها عبر طريق التنمية إلى تركيا، فالبحر المتوسط حيث ميناء جيحان، أو برّاً إلى أوروبا.