ترتفع حدّة الأصوات التركية المندّدة بالمجازر الوحشية التي يرتكبها العدو الإسرائيلي في قطاع غزة، بما يشمل المسؤولين ووسائل الإعلام كافة، من دون تمييز بين موالٍ ومعارض أو إسلامي وعلماني. وكادت عناوين الصفحات الأولى للصحف الصادرة عقب مجزرة مستشفى «المعمداني»، تكون متشابهة، ومن بينها على سبيل المثال: «موت الإنسانية» (سوزجي)، «الإنسانية تسقط في الامتحان» (جمهورييات)، «الإنسانية ماتت في هذه المستشفى» (حريات)، «حرب الأكاذيب» (تركيا)، «القاتل (بايدن) في مسرح الجريمة» (يني شفق)، «إرهاب الدولة» (قرار)، «تلاقي الأيدي الدموية (لقاء نتنياهو وبايدن)» (أقشام)، «فَلْتغرق الصهيونية والصليبية في الدم الذي سفحتاه» (يني عقد)، «البرلمان يتحدّث عن إسرائيل القاتلة» (ملي غازيتيه)، «حزب العدالة والتنمية يجب أن يغيّر سياسته الخارجية فوراً» (آيدنلق)، «إخوة الدم (عن بايدن ونتنياهو)» (ميلاد).والواقع أن اتّساع الغضب التركي كان متوقَّعاً، إذ إن الرأي العام معروف تقليدياً بتعاطفه مع الشعب الفلسطيني (بمعزل عن موجة العنصرية ضدّ السوريين والعرب في السنوات الأخيرة)، بخلاف قادته الذين نسجوا منذ اللحظة الأولى لقيام إسرائيل علاقات كانت من العوامل التي مكّنت دولة الاحتلال من تعزيز قوّتها في مواجهة العالم العربي وحركات تحرّره. كما أن الوحشية الإسرائيلية التي تجاوزت كلّ حدود بعد مجزرة «المعمداني»، فاقمت الكراهية للكيان العبري في كلّ مكان، ومن ذلك تركيا التي اشتدّ فيها السخط إلى حدّ دفَع إسرائيل إلى مطالبة ممثّليها الديبلوماسيين كلهم بمغادرة الأراضي التركية، مبرّرةً خطوتها بالمخاوف من الوضع الأمني. وهكذا، تواجه عودة العلاقات الديبلوماسية بين الجانبَين، والتي استؤنفت قبل سنة ونيّف فقط، انتكاسة سريعة، رغم أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، حاول، منذ اللحظة الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، اتّخاذ مواقف «معتدلة» و«حيادية» كي لا يضرّ بهذا المسار، فيما دعا وزير خارجيته، حاقان فيدان، من جدة حيث اجتمع وزراء خارجية دول «منظّمة التعاون الإسلامي»، إلى «السلام بين إسرائيل والفلسطينيين»، معتبراً أنه «من دون ذلك، لا يمكن توفير الأمن في المنطقة وللمشاريع التي تتعدّاها» (ملمّحاً إلى خطّة «الممرّ الهندي»)»، وأنه يجب كسر «الحلقة المفرغة» في الوضع الراهن.
وخلافاً لما ساد الأيام الأولى من الحرب من خطاب متهاود في إدانة إسرائيل، صبّ المسؤولون والكتّاب الأتراك، أخيراً، جمّ غضبهم على دولة الاحتلال. وبينما وصف رئيس البرلمان، نعمان قورتولمش، إسرائيل، بأنها «سلّة قمامة»، كتبت صحيفة «قرار» في افتتاحيتها أن إسرائيل «تبيد أمّة بكاملها»، متسائلةً: «إلى متى سيستمرّ العالم في التفرّج على جرائم إسرائيل وجنونها غير المسبوق»، مُبرزةً الدعم الأميركي الكامل للعدو «في وقت كانت فيه غزة تغرق في الجنازات».
أمّا فهيم طاشتكين، فكتب في «غازيته دوار» عن شراكة «الديموقراطيين» في كلّ العالم في الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون، قائلاً إنه في وقت يحاول فيه هؤلاء أن يفرضوا على الإنسانية «حضارتهم»، فقد بلغوا ذروة الهمجية بإعطائهم إسرائيل «حقّ القتل». وتساءل: «ماذا حدث لحقّ الفلسطينيين في الحياة؟»، ليجيب بأن «إسرائيل عدّتهم حيوانات بشرية وأخرجتهم من الإنسانية، فيما لا يجرؤ أيّ قائد عربي على القول إنه إذا فعلت إسرائيل كذا وكذا، فسأقطع عنها النفط والغاز». ولفت إلى أنه على أحد الجسور في تل أبيب، عُلّقت يافطة تقول: «النصر في غزة: عدد السكّان صفر»، وأخرى كتُب عليها: «تدمير غزة»، مستنتجاً أن «التصنيفات المتغطرسة الإسرائيلية والأميركية تجاوزت حتى التصنيف الذي كان معتمَداً لدى العنصرية القديمة».
الرأي العام في تركيا معروف تقليدياً بتعاطفه مع الشعب الفلسطيني


بدوره، أشار أحمد طاش غيتيرين، في «قرار»، إلى أن «بايدن ونتنياهو وغيرهما انتقلوا بتصريحاتهم وجرائمهم إلى الحدّ الآخر من الإنسانية، عندما قال بلينكن إنه آتٍ بصفته يهودياً»، مضيفاً أنه «ها هو المستشار الألماني، أولاف شولتز، وباسم التكفير عن خطيئة هتلر، جاء لتحية الفظائع النازية التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين». وتساءل طاش غيتيرين: «هل إسرائيل هي بلد الذين تعرّضوا لاضطهاد النازية أم أنها بلد من الوحشية؟ إن إسرائيل تقصف كلّ شيء من المدارس والتنظيمات الخيرية إلى الصحافيين. أيّ نوع من الكراهية والانتقام هذا؟ يأتي بايدن بأساطيله كلّها، ثمّ يتحدّث عن السلام، لكن هل سأل نتنياهو: لماذا ضرب المستشفى؟ وأنا بدوري أسأل: هل أنت بشر يا نتنياهو؟». ورأى الكاتب أن «إعلان بايدن دعمه لإسرائيل، أثار العالم الإسلامي كله ضدّه»، مشيراً إلى أن «إردوغان حاول في البداية أن يكون في الوسط، بدعوته الجميع إلى الاعتدال، ولكنه انفجر أخيراً من الغضب». وخلص إلى أنه «لا يختلف نتنياهو ولا بايدن عن هتلر. نعم الهولوكوست لا تُنسى، لكن صبرا وشاتيلا لا تُنسى، ولا مستشفى المعمداني. حتى الموت لإسحاق رابين جلبه خطّ الكراهية والحقد الذي تحمله الصهيونية. غزة هي امتحان لكلّ البشرية».
وذكّر أوزاي شندير، في «ميللييات»، من جهته، بأن «الإنسانية انتظرت حتى القرن التاسع عشر لتقرّر أن المستشفيات وأماكن العبادة أماكن لا يجب استهدافها في الحرب»، واصفاً ما جرى في غزة بأنه «عودة بالإنسانية إلى ما قبل الميلاد». وأضاف أن «الجيوش كلّها تستخدم حيل الاستخبارات في المعارك، لكن إسرائيل دعت مدنيين إلى مغادرة أماكنهم نحو الجنوب، وعندما خرجوا إلى الطريق قتلهم الجيش الإسرائيلي. لم يَعُد حتى الذهاب الى الجنوب آمناً». وفي الاتجاه نفسه، أشار تامر قرقماز في «يني شفق» إلى أنه «إذا كان أنتوني بلينكين قال إنه آتٍ بصفته اليهودية، فإن جو بايدن قال عام 2016 إنه ليس يهودياً ولكنه صهيوني»، معتبراً أنه «من دون إزالة دولة الإرهاب، إسرائيل، من الوجود، لن يرتاح المظلومون في العالم»، فيما وصف محمد شكر، في الصحيفة نفسها، إسرائيل والولايات المتحدة بأنهما «دولتان بقلب واحد».
من جانبه، شدّد محمد علي غولر، في «جمهوريات»، على أن «هذا ليس وقت الإدانة بل العمل»، لافتاً إلى أن «العالم يدين إرهاب الدولة في إسرائيل، فهل تهتمّ إسرائيل بذلك؟ بالطبع لا. لا توجد أيّ عقوبة عليها، فيما إدانتها لا تمنع المذبحة الفلسطينية». وعرض غولر الإجراءات التي يجب، من وجهة نظره، أن تُتّخذ لإيقاف إسرائيل عند حدّها، وهي التالية:
أوّلاً، طرد كلّ سفراء إسرائيل من الأماكن كلّها التي يتواجدون فيها، واعتبارهم أشخاصاً غير مرغوب فيهم، تماماً كما فعلت كولومبيا.
ثانياً، إغلاق القواعد الأميركية التي تستفيد إسرائيل منها، مِثل «كوريجيك» في تركيا، وعلى وجه السرعة.
ثالثاً، إغلاق قاعدة «إينجيرلك» التي تستخدمها الولايات المتحدة لمصلحة إسرائيل، في ما سيمثّل عقوبة مهمّة.
رابعاً، إخراج إسرائيل من آليات «حلف شمال الأطلسي» بعدما دعم «حزب العدالة والتنمية» هذه المشاركة، رغم أن إسرائيل ليست عضواً في الحلف.
خامساً، قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل وعدم التصدير إليها ولا شراء منتجاتها.
سادساً، حظر تصدير النفط والغاز إلى إسرائيل.
سابعاً، وقف التطبيع مع إسرائيل ومقاطعتها من جانب كلّ من كان طبّع معها.
ثامناً، تطبيع العلاقات مع دمشق من جانب أنقرة، في ما سيمثّل «إجراءً فعّالاً» ضدّ تل أبيب.
تاسعاً، مقاضاة إسرائيل لحكومة نتنياهو، واعتراف العالم بالدولة الفلسطينية المستقلّة.
عاشراً، تشكيل تركيا وإيران والسعودية «مثلّث الشرق الأوسط» لوقف إطلاق النار في غزة، بدعم من روسيا والصين ومشاركتهما.
وختم غولر بأن العالم أكبر من أميركا وإسرائيل ومن الدول الأنكلوسكونية، معتبراً أنه «كلّما اتّحد العالم، كلّما ضعف مثلّث أميركا - إنكلترا - إسرائيل». ورأى أن «شروط نجاح ذلك متوافرة اليوم أكثر ممّا كانت في الماضي، مع بدء تشكيل عالم متعدّد الأقطاب يكسر الهيمنة الأميركية»، مضيفاً أن هذا العالم الجديد «يمكنه وقف شراكة الإجرام التي تعمل على تحويل المنطقة إلى حريق».