يمكن وصف مقدّم البرامج البريطاني بيرس مورغان بأنّه واحد من ضباع الإعلام، يدعم الغرب الاستعماري العنصري. ليس في الأمر أي التباس حين تشاهد الرجل يحاور ضيوفه، وخصوصاً أولئك العرب أو المؤيّدين للقضية الفلسطينية هذه الأيّام. إنه يحاول «افتراسهم» حرفياً، على الجانب الآخر، ينزع عنه رداء الذئب، ويصبح حملاً وديعاً حال حضور ضيوفٍ صهاينة، أو متصهينين شأن المطبّل بن شابيرو، وإيهود باراك، وتسيبي هوتوفلي (سفيرة الكيان في بريطانيا).
أثناء مقابلته مع السفير الفلسطيني في لندن، حسام زملط

عاد مورغان إلى الواجهة بقوة بعد استضافته الإعلامي المصري باسم يوسف الذي يجيد مخاطبة الرأي العام الغربي. سخرية يوسف وقوة بيانه وخطابه واستخدامه نوعاً من الكوميديا السوداء في محاور الحلقة كافة، جعلت الحلقة «ترند» على السوشال ميديا من جهة، وعرّت في الوقت نفسه الحيادية المزعومة التي يتبناها مورغان مظهرةً انحيازه السافر لسياسات كيان الاحتلال وهمجيته وتوحشه. استخدم مورغان عدّته المعروفة: برودة الإنكليز الشهيرة، الوجه المعدوم الملامح، «المهنية» المزعومة، الصوت الناقد، والأهم من ذلك كله سرعة مقاطعته لضيوفه بمجموعةٍ كبيرة من الأسئلة، ناهيك بتكرار السؤال المقرف ذاته: «هل تلوم «حماس» على ما فعلته؟». السؤال نفسه تلقّفه الإعلامي المصري، ليبدأ به مشواره في مواجهته: «أنت تريدني أن ألوم «حماس»؟ رائع، «حماس» أم الشرور، لكن لنفترض عالماً بلا «حماس»، ولنسمّه الضفة الغربية. «حماس» لا تسيطر على الضفة الغربية، وليست موجودة فيه. منذ بداية هذه السنة وحتى شهر آب (أغسطس) الماضي، قُتل 37 طفلاً فلسطينياً هناك. منذ احتلال الضفة الغربية، قُتل 7000 فلسطيني». يحاول البريطاني كعادته مقاطعة يوسف، لكن الأخير يستخدم حيلة الإعلامي البريطاني نفسها. لا يسمح له بالحركة أو بالكلام. إنه بالعامية «يَفجر في مواجهته»، يستخدم توصيفات فجة ووقحة كتلك التي يستخدمها بين شابيرو نفسه في توصيف الفلسطينيين، لكنها قد تكون طريقة ناجعة في التعامل مع مورغان وما يفعله. يحاول مورغان تغيير قواعد اللعبة لمصلحته: يظهر مقابلة سابقة لشابيرو، مشيراً ليوسف إلى أنّه «لم يقل هذه الصفات في حلقته»، ليجيب المصري بسخرية أكبر: «أنا أؤيده وأتفق معه» شارحاً عبر إحصائيات أنّ «سنة 2014 كانت رائعة بالنسبة إلى بين شابيرو. 88 إسرائيلياً قُتلوا في مقابل 2329 فلسطينياً، أي بمعدل إسرائيلي واحد مقابل 27 فلسطينياً، هذا سعر صرفٍ جيد. أسأله ما هو سعر الصرف اليوم؟». هنا يتنبه مورغان للفخ الذي أوقعه يوسف فيه: «هذا ليس أنا، أنا لستُ طرفاً» يجيب بسرعة، ويعود للكذب مظهراً تأييده السافر للصهاينة، قائلاً: «أنا أشعر أن حجم ما فعلته «حماس» في السابع من أكتوبر لا يحلّ محلّ أي شيء آخر رأيته في هذا الصراع إطلاقاً. الوحشية، وذبح 1300 شخص، إطلاق الأطفال، واختطاف الجدّات».
يظهر بيرس لعبة الإعلام حين يستضيف اليوتيوبر الفلسطيني محمد حجاب، ويقدّمه بتوصيف: «مؤثر مثير للجدل مؤيد لفلسطين مع مليون من المتابعين على تويتر». إنه يحضّر جمهوره لاتخاذ موقف من ضيفه منذ البداية، فهو «مثيرٌ للجدل» و«مؤيد لفلسطين». عبارات تأتي بعد «صفّ من التطبيل لبين شابيرو المهلل للصهاينة» مع جمل من نوع: «قدّم تحليله العاطفي والقوي». هنا تبدو ألعاب الإعلام القذرة: شابيرو ذو التحليل العاطفي والقوي، وحجاب المثير للجدل المؤيد لفلسطين و«ضمناً قتل المدنيين». شابيرو ليس «متحزباً» لأحد وفقاً لمورغان، إذاً شابيرو يشبه كل المشاهدين. أما حجاب، فهو «مؤيد لفلسطين». إنه «خطاب كراهية» موجه منذ اللحظة الأولى، وهو ما يعلّق عليه حجاب منذ الثانية الأولى بسؤاله: «لماذا قدمتني هكذا؟ لماذا لم تقدّمني بوصفي خريج «جامعة أكسفورد»؟». يحاول مورغان التهرّب تارةً عبر قوله «أنا لستُ طرفاً في هذ الصراع»، وطوراً «أنا صححت كلامي وقلت: يميني فلسطيني». طبعاً هو لم يقل، ولم يصحّح. يحاول حجاب إثارة موضوع جرائم الحرب الصهيونية، سائلاً مورغان: «لماذا لم تسأل السفيرة الصهيونية عنها؟» ليجيبه مورغان بأنّها «نقطة قابلة للنقاش». هنا نقطةٌ أخرى شديدة الأهمية في الحرفة الإعلامية وخبثها ألا تسمي الجريمة «جريمةً» وأن تصورها كما لو أنّها ليست كذلك، مع جمل كاذبة من نوع: أمر قابل للنقاش، رأيٌ مختلفٌ عليه أو فيه، أو وجهة نظر.
يتنبه مورغان إلى أنَّ ضيفه حجاب متحمّس جداً، لذلك يقاطعه، ويبدأ بحديث استدرار الشفقة مع جمل من نوع «خطف الجدّات» و«قتل الأطفال في مهدهم» متجاهلاً قتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين. هناك مدنيون صهاينة فقط. أما على الجانب الفلسطيني، فهناك «إرهابيون». لا يقولها الإعلامي البريطاني صراحة، لكنها تمرّ على نحو مضمر في برنامجه وفكره. يسأله حجاب عن قتل «الأطفال في مهدهم»، ليسأله مورغان «أنت لا تصدق أن هذا قد حدث؟». هذه نقطة أخرى لألعاب الإعلام: يعرف أي متابعٍ حالي للأخبار أنَّ موضوع «قتل المقاومة للأطفال في مهدهم» فبركة إعلامية صهيونية سرعان ما كذّبها بنفسه. مع هذا، فإن مورغان يمارس حرفة التضليل باحترافية بالغة: يدرك أنّ المعلومة كاذبة، لكنه يظل يستعملها فقط لذر الرماد في عيون المشاهدين وضيفه مع جمل من نوع «مراسلة واحدة تراجعت عن الخبر». مع العلم أنَّ هذه المراسلة (اسمها نيكول زيديك مراسلة لـ قناة i24NEWS الصهيونية)، هي التي أوردت الخبر وفبركته، أي إن الخبر لم يكن موجوداً قبلها. يجر مورغان ضيفه إلى حوارٍ لدقائق حول «صحة» أمرٍ كاذب، فقط لإظهار ضيفه/ خصمه مدافعاً عن أمرٍ صغير، فيما لا يُحكى عن قتل الصهاينة وإعدامهم لدمٍ بارد آلاف الفلسطينيين. يسأل حجاب مورغان حول «إدانته لمقتل الفلسطينيين». يعيد البريطاني الكرة إلى ملعب حجاب: «أنا أُدين تعرَّض آلاف الإسرائيليين للقتل. القوات الإسرائيلية لا تدخل غزّة في يومٍ واحد وتعتقل الجدات وتقتل الأطفال». يقول مورغان هذه الجملة «المرعبة» على الهواء مباشرةً وأمام الملايين من المشاهدين حول العالم. هو لا يرى نهائياً المجازر الصهيونية اليومية، كما لو أنها غير موجودة، بكل وقاحة، استعلائية، وعنصرية وانتقائية ممنهجة للضحايا.
يمارس حرفة التضليل باحترافية ويحاول «افتراس» ضيوفه المناصرين للقضية الفلسطينية


المنطق، والطريقة، والمنهجية نفسها يستخدمها الإعلامي صاحب القضايا المثيرة للجدل في مقابلته السفير الفلسطيني في لندن، حسام زملط. يقرأ تغريدة لزملط على منصّة «أكس» تحكي عن مجزرة «مستشفى المعمداني» في غزة. منذ اللحظة الأولى، يكذّب مورغان ما جاء فيها مشيراً إلى أنّ قسم التحقيقات في «بي. بي. سي»، وهم «أجروا تحقيقاً شاملاً حول كل ما هو متاح في الوقت الحالي عبر وحدة التحقيق الخاصة بهم والمصممة خصيصاً لتجاوز أي خطاب انحيازي للوصول إلى الحقيقة». هو يصل إلى الاستنتاج المتوقّع منه: «من المرجح أن يكون الصاروخ قد أُطلق فعلاً من داخل غزّة». لم يكن الأمر متوقعاً البتة! زملط الذي أصبح شخصيةً محببةً للفلسطينيين بعد أدائه المحترف والمتسم بالمهنية العالية بعيداً عن الترهّل الديبلوماسي الفلسطيني والعربي المعتاد، يأخذ بالحديث حول هجمات الصهاينة على المستشفى قبل يومين، وعن تهديداتهم الدائمة له (أي للمستشفى) ولإدارته. يحاول بيرس مقاطعته، بدل المرّة مرات، لكن زملط يعود إلى إجابته بالثقة والهدوء نفسيهما: «هل تعتقد أن المقاومين في غزة يمتلكون هذه الدقة والقوة النارية، حقاً؟». يعود زملط للحديث: «أنا أثق بالصليب الأحمر وبرأيه. مَن الذي يمنع الصليب الأحمر من التحقيق في الأمر؟» مشيراً إلى جيش الصهاينة الذي يمنع أي تحقيقات من أي مؤسسة لا تقف إلى «جانبه». يجرّ مورغان زملط إلى «معركة» عبر دفعه للتهجم على الرئيس الأميركي، مهدداً إياه: «إنها اتهاماتٌ كبيرة توجهها إلى الرئيس الأميركي». يهدّد ديبلوماسياً بأقوى قوة سياسية/ عسكرية على الأرض. يتنبه مورغان إلى أنَّ زملط يجيد الكلام، لذلك يسرع إلى «تصغير» المعركة. يصارع فعلياً كي يركز على «حجم الحفرة التي خلّفها الصاروخ في الأرض»، ويكرر الخبر والتساؤل مرات ومرات لجرّ الديبلوماسي الفلسطيني إليه. يسأله زملط باحترافية: «لقد استقبلت السفيرة الإسرائيلية في بريطانيا بمشاعر متدفقة عن الأمهات الصهيونيات، لماذا لم تبدأ معي بفيديو عن آلاف الأمهات الفلسطينيات؟ هذا هو عدم التماثل». وهذا فعلياً ما يفعله الإعلامي البريطاني المزعج والمتزلّف للصهاينة. يعلو الصوت فجأة، ليقول البريطاني محدّداً أسس صراعٍ خاصة للعبةٍ يعتقد أنه يسيطر عليها: «إنه برنامجي، وأنت ضيف في برنامجي، هذه ليست الطريقة التي يعمل بها البرنامج». مشهد يذكّرنا باللعبة التي كنا نمارسها صغاراً حين يخسر صاحب الكرة، فيقول متبرّماً: «هذه طابتي، هاتها، ممنوعٌ أن أخسر».