أنهت إسرائيل، قبل أكثر من أسبوع من الآن، استعداداتها للدخول البرّي إلى قطاع غزة، فيما جرى الحديث عن «ساعة الصفر» لبدء التنفيذ، أكثر من مرّة في الأيام الماضية، إلا أن شيئاً لم يحدث بعد. ويثير هذا التردّد، الذي يرى فيه البعض «خشيةً» من التنفيذ، ويعدّه آخرون «حذراً» يدفع إلى تجميد مؤقّت للعملية، أسئلة لا تنقطع، مع عودة الحديث عن «انتفاء» الحرب البرّية من أساسه. إزاء ذلك، يمكن الإشارة إلى الآتي:- لا شك عند أحد بأن إسرائيل قادرة مادياً على شنّ عملية برّية في غزة، ولو أن أسئلة تبقى قائمة: ماذا ستحقّق إسرائيل، وهل هي مستعدّة لدفع الثمن قتلى وأسرى ومفقودين، وما الذي ستجنيه أكثر ممّا جنته في الماضي؟. لكنها أسئلة لا تنفي احتمال التدخّل البري.
- لا تريد أميركا، في معرض تمكين إسرائيل من هزم الفلسطينيين، أن تتسبّب لنفسها بعواقب سيئة إستراتيجياً في الإقليم وخارجه، وهو ما يبدو كنتيجة مؤكّدة للدخول البرّي وما سيليه. لكن ذلك لا يكفي وحده للجزم بِنية واشنطن منع تل أبيب من تفعيل أيّ من الخيارات البرّية.
- هناك حديث تضليلي عن إمكان أن تُدخِل إسرائيل قواتها البرّية إلى القطاع، للقيام بـ«حركات استعراضية»، لإيجاد مخارج شكلية لأزمتها. وهو حديث مشبع بالتمنيات.
- كل الحروب التي خاضتها إسرائيل في العقود الماضية، ليس فيها الكثير ممّا يشبه الحرب الحالية. فإذا كان غيرها مُبادَراً إليها، ضمن خطّة وأهداف ومخارج سياسية محدّدة مسبقاً، فإن الحالية جاءت كردّ على فعل بادر إليه واختار توقيته الفلسطينيون، فيما إسرائيل كانت تستبعد حرباً كتلك، بل تعدّها ضرباً من الخيال. وعلى هذه الخلفية، لا يمكن مقارنة ما مضى، بما هو الآن.
- الحرب الحالية تُخاض فيما يجري إعداد أهدافها ومخارجها السياسية، في سياق العمليات العسكرية نفسها، مع ما يستبطنه ذلك من فرص وتهديدات لكلا الجانبَين.
- تلقّت تل أبيب هزيمة مدوّية ومركّبة في السابع من تشرين الأول الجاري، ما كُشف من تداعياتها على مصلحة إسرائيل، الدولة والجمهور والمكانة والمستقبل، أقلّ بكثير، ممّا لم يُكشف بعد. ولعلّ واحداً من أهمّ تلك التداعيات، الصدمة التي حلّت بالإسرائيليين، جمهوراً وقادة على السواء، ودفعتهم إلى وضع سقوف عالية جداً، لامست في الأيام الأولى من الحرب، السماء.
أميركا تريد تمكين إسرائيل من إستعادة ردعها، لدى جمهورها وأعدائها. لكنها تخشى قيام إسرائيل بأفعال تضرّ بها وبحلفائها


- طُرحت على طاولة القرار في إسرائيل، مستويات واتّجاهات مختلفة، وصُودِق على أهداف يراد الوصول إلى تحقيقها. بينها ما يجب تحقيقه مهما كانت الأثمان، وبينها ما هو ضروري للمصالح الإسرائيلية ويجب الاشتغال ما أمكن لإنجازه، مع الإشارة هنا إلى أن غريزة الانتقام تتحكّم بجزء كبير من تفكير أصحاب القرار في تل أبيب.
- الموقف الأميركي محكوم باعتبارات، بينها تمكين إسرائيل من إعادة الاعتبار إلى قوة ردعها، لدى جمهورها وأعدائها وأصدقائها على السواء. وفي المقابل تريد أميركا منع إسرائيل من المبادرة إلى أفعال تضرّ بها وبأميركا، وبالمحور الأميركي في المنطقة، سواء في ما يتعلّق بالإستراتيجيات، أو التموضعات الحالية للدول، أو حتى بالحرص على الأنظمة الموالية، والتي ستتهدّد وجودياً، ضمن هذا السيناريو أو ذاك، كما في حال تنفيذ «الترانسفير» من غزة إلى سيناء.
- المؤسف، بالنسبة إلى إسرائيل، أن المنتصر في الحرب، تَحدّد منذ اليوم الأول، مع ما صاحَب الانتصار من تداعيات إستراتيجية بلا سقوف داخلياً وإقليمياً ودولياً. أمّا الثمن الذي تدفعه غزة من جرّاء ذلك، فهو مهما علا، لن يغيّر النتيجة الابتدائية للحرب، وهي انتصار «حماس» على إسرائيل.
وعليه، ما يمكن للعدو فعله، هو تدفيع الفلسطينيين ثمن الانتصار، عبر التفكير في «اجتثاث» حماس وبقية فصائل المقاومة عسكرياً وسياسياً واجتماعياً، ومنع الغزيّين من العودة إلى ديارهم. وهذا الهدف لا يتحقق بالحرب عن بعد، فلا بدّ لإسرائيل من أن تشنّ حرباً حقيقية، وهي تعرب عن استعدادها لتحمّل الكلفة العالية كثيراً، إذا نجحت في تحقيق هزيمة مدوّية لـ «حماس»، بما يمكّن إسرائيل من تحقيق مصالحها وفرض إرادتها، حتى من دون أن تطلبها أو تسعى إليها.
لذلك، لا يجب توقّع أقلّ من التدخّل البرّي، الفاعل والمؤثّر، والهادف إلى «اجتثاث» المقاومة. أمّا ما دون ذلك، فتكون إسرائيل من خلاله قد أكّدت هزيمتها، وهو ما لا يمكن لها، مهما كانت الخسائر، أن تسمح بتحقّقه. أمّا في حال انكفأت، وامتنعت عن الدخول البرّي، أو قرّرت دخولاً برّياً شكليّاً، فنتيجته الضعيفة، تتعارض مع مصلحة العدو في هذه اللحظة، لمواجهة التهديد الوجودي لإسرائيل، مهما بلغت «التضحية» حتى آلاف القتلى الإسرائيليين. ومن هنا، يجدر البحث في سبب تأخير موعد العملية البرّية، والذي يُعزى في بعض التفسيرات إلى أن إسرائيل تريد استعادة عامل المفاجأة الذي سُلب منها، كون الدخول البرّي متوقّعاً حالياً.
الحرب القائمة ليست مألوفة، بل هي حرب وجود سيتحدّد وفقاً لنتيجتها مستقبل إسرائيل. ولذا، لا حديث عن وقف إطلاق النار راهناً، كونه يحتاج إلى طرفين لتنفيذه، ما يعني أن الطرف الثاني (الفلسطيني) ما زال موجوداً، وهي النتيجة التي ستكون معها دولة الاحتلال خاسرة، مهما كان الثمن الذي دفعه الفلسطينيون، أو المحور الذي يدعمهم. ومن هنا، تأتي حتمية، أو شبه حتمية الدخول البرّي. وإذا كانت العملية البرية شبه محسومة، وإرادة الحسم فيها ضرورية، فإن الاستمرار فيها، غير محسوم، ربطاً ببدء وقوع الخسائر وتراكمها.