لم يعد انحياز الميديا الغربية للرواية الصهيونية حول الحرب الدائرة في غزّة قابلاً للنقاش. منذ بدء معركة «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الحالي، والتضليل والبروباغندا هما عنوانا المعركة الإعلامية المرافقة لفظائع آلة الحرب الإسرائيلية. هكذا، تعتمد غالبية وسائل الإعلام الغربية المهيمنة رواية الاحتلال، متجاوزةً القواعد المهنية التي تصرعنا بها ليل نهار، بدءاً من قصة «قطع رؤوس أطفال إسرائيليين»، مروراً بتسمية العدوان نفسه بـ«حرب إسرائيل وحماس»، وليس انتهاءً بتحميل «حركة الجهاد الإسلامي» مسؤولية مجزرة «مستشفى المعمداني» التي خلّفت أكثر من 500 شهيد وجريح.لعلّ أوضح الأمثلة على هذا هو أداء «هيئة الإذاعة البريطانية» في ظلّ انحياز السلطات في المملكة المتحدة الكلّي إلى الموقف الإسرائيلي. BBC التي اعتبرت أنّ الناس في غزّة «يموتون» بينما «يُقتلون» في الأراضي المحتلة، وضيّقت على صحافييها الذين أبدوا تأييداً أو تعاطفاً مع الفلسطينيين، نشرت قبل يوم واحد من قصف المستشفى تقريراً تساءلت فيه: «هل تبني حماس الأنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟». قدّمت الشبكة ذريعة لقوّات الاحتلال لارتكاب مذابحها المتنقّلة حين رجّحت أنّ شبكة الأنفاق تتدفّق تحت أحياء مكتظة بالمنازل والمستشفيات والمدارس.

(سارة قائد ــ البحرين)

وبعد التخبّط الإسرائيلي لناحية تبنّي الاستهداف، خرجت روايات إعلامية ممنهجة تهدف إلى إقناع الرأي العام بأنّ ما جرى هو نتيجة إخفاق «الجهاد» في إطلاق صاروخ بالقرب من الموقع. سردية سارعت إلى تبنّيها منصّات أجنبية عدّة على رأسها «نيويورك تايمز»، فيما استشهد بها كثيرون أمثال مقدّم البرامج البريطاني بيرس مورغان الذي بات لا يفوّت فرصة لطرح المسألة في برنامجه Piers Morgan Uncensored، كما حدث مثلاً لدى استضافته سفير فلسطين في بريطانيا حسام زملط، والمعلّق السياسي الناشط على «تويتش» حسن بايكر (HasanAbi). في حديثه مع الأخير، لفت مورغان إلى أنّ هناك شبه إجماع على أنّ إسرائيل غير مسؤولة عمّا جرى في «مستشفى المعمداني»، مستشهداً بـ «تحقيق مستقلّ» أجرته «بي. بي. سي» بالاستعانة بثلاثة خبراء «مستقلين» ونشرت نتائجه الأسبوع الماضي. غير أنّ ما غفل عنه بيرس وغيره ممن تداولوا فحوى التقرير، أنّ علامات استفهام عدّة تُرسم حول الخبراء الثلاثة، تدفع حتماً إلى التشكيك في صدقيتهم وتأكيدهم على أنّ الانفجار الذي كانت غالبية ضحاياه من النساء والأطفال «لا يتوافق مع غارة جوية إسرائيلية».
أوّل هؤلاء هو جاستن برونك الذي يُعد أحد كبار الباحثين في «المعهد الملكي للخدمات المتحدة» في المملكة المتحدة، المموّل من وزارتي الخارجية الأميركية والبريطانية، والجيش البريطاني، وشركات أسلحة منها BAE Systems. أما فاليريا سكوتو، فهي «كبيرة محلّلي الشرق الأوسط» لدى شركة Sibylline لتقييم المخاطر، كما أنّها رئيسة تحرير مجلة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا (مشروع تابع لـ «مركز أبحاث تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الإسرائيلي» الذي يرأس مجلس إدارته رئيس سابق للموساد).
وبالنسبة إلى الأكاديمي جي أندريس غانون، فقد أصبح أخيراً زميلاً في كلية الدفاع التابعة لحلف شمال الأطلسي ومجلس العلاقات الخارجية. علماً أنّ الأخير هو مؤسسة مؤثرة في الولايات المتحدة، يتكوّن مجلس إدارتها من رؤساء شركات (من بينها أسلحة) ومصارف أميركية.
لكن في المقابل، شكّك تحقيق مصوّر نشرته القناة الرابعة البريطانية بالرواية التي روّج لها الاحتلال الإسرائيلي. على مدى 4 دقائق و14 ثانية، أوجزت المحطة خلاصة التحقيق المشترك لوكالة الأبحاث Forensic Architecture التابعة لـ «كلية غولدسميث» في «جامعة لندن» (تحقق في انتهاكات حقوق الإنسان)، ومنظمة Earshot غير الربحية التي تنتج تحقيقات صوتية عن حقوق الإنسان، إضافة إلى منظمة «حق» الحقوقية التي تتخذ من رام الله مقرّاً لها.
استشهد بيرس مورغان وآخرون بتحقيق «بي. بي. سي»


يظهر في بداية المادة المصورّة تحليل Forensic Architecture حول أنّ «الحفرة الناجمة عن الارتطام، تُشير إلى أن القذيفة جاءت من الشمال الشرقي وليس من الغرب كما قال الجيش الإسرائيلي». استشهد التحليل بالمحقق والخبير في الأسلحة المتفجّرة، كريس كوب ــ سميث، الذي قال إنّ «أنماط الشظايا الناجمة عن الانفجار تُشير إلى أن القذيفة جاءت من الشمال الشرقي، وهو الاتجاه الذي تسيطر عليه إسرائيل من محيط قطاع غزة». وأشار في الوقت نفسه إلى أنّ «حجم الحفرة يدل على وجود ذخيرة أكبر من صاروخ سبايك أو هيلفاير، الذي تستخدمه عادة الطائرات الإسرائيلية من دون طيار»، وإن كان التحقيق ذكر أنّه «من دون أدلة مادية إضافية، لا يمكننا إجراء تقييم نهائي».
وشمل التحقيق المشترك تحليلاً أجرته Earshot للمكالمة الهاتفية التي نشرها الجيش الإسرائيلي، وزعم أنّها توثّق حديثاً بين عنصر سابق من «حماس» وشخص آخر، يقرّان خلاله بأنّ الضربة «جاءت من داخل القطاع». إذ تبيّن لها أنّه «تم التلاعب بالتسجيل المنشور، وبالتالي فهو لا يعد دليلاً موثوقاً لصحة رواية الجيش الإسرائيلي».
علماً أنّ وكالة «رويترز» كانت قد أكّدت في وقت سابق أنّ التسجيل الصوتي «خضع لعملية تحرير، شملت إضافة أصوات صفير لإخفاء الكلمات والأسماء». وفي السياق نفسه، شدّدت «الحق» أنّ في حوزتها «صوراً ثابتة تشير إلى قصف القوات الإسرائيلية لقسم السرطان في «مستشفى المعمداني» في 14 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023».